مشيئة الله تعالى ، أو وقت مشيئته تعالى. لعودنا فيها. وذلك مما لا يكاد يكون ، كما ينبئ عنه قوله تعالى : (رَبُّنا ...) فإن التعرض لعنوان ربوبيته تعالى لهم ، مما ينبئ عن استحالة مشيئته تعالى لارتدادهم قطعا ، وكذا قوله (بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها) فإن تنجيته تعالى لهم منها ، من دلائل عدم مشيئته لعودهم فيها. وقيل معناه : إلا أن يشاء الله خذلاننا. فيه دليل على أن الكفر بمشيئته تعالى. وأيّا ما كان ، فليس المراد بذلك بيان أن العود فيها في حيّز الإمكان ، وخطر الوقوع ، بناء على كون مشيئته تعالى كذلك ، بل بيان استحالة وقوعها. كأنه قيل : وما كان لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا ، وهيهات ذلك. بدليل ما ذكر من موجبات عدم مشيئته تعالى له ـ انتهى ـ.
ولا يخفى أن إفهام ذلك الاستحالة ، هو باعتبار الواقع ، وما يقتضيه منصب النبوة. وأما إذا لوحظ مقام الخوف والخشية ، الذي هو من أعلى مقامات الخواصّ ، فيكون ما ذكرناه أولا أدقّ ، وبالقبول أحق.
قال الإمام ابن القيم في (طريق الهجرتين) : قد أثنى الله سبحانه على أقرب عباده إليه بالخوف منه ، فقال عن أنبيائه ، بعد أن أثنى عليهم ومدحهم (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) [الأنبياء : ٩٠] فالرغب الرجاء ، والرهب الخوف والخشية. وقال عن ملائكته الذين قد آمنهم من عذابه (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [النحل : ٥٠] وفي الصحيح (١) عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «إنّي أعلمكم بالله ، وأشدكم له خشية». وفي لفظ آخر : إنّي أخوفكم لله وأعلمكم بما أتقي. وكان صلىاللهعليهوسلم (٢) يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء. وقد قال تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨] ، فكلما كان العبد بالله أعلم ، كان له أخوف.
الثالث : قال الفرّاء : أهل عمان يسمون (القاضي) الفاتح والفتاح. لأنه يفتح مواضع الحق ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : ما كنت أدري ما قوله : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها : تعال أفاتحك ، أي أحاكمك.
وقال الشهاب : الفتح ، بمعنى الحكم ، وهي لغة لحمير ، أو لمراد ، والفتاحة
__________________
(١) أخرجه البخاري في : الأدب ، ٧٢ ـ باب من لم يواجه الناس بالعتاب ، حديث ٢٣٤٣.
(٢) أخرجه النسائي في : السهو ، ١٨ ـ باب البكاء في الصلاة.