الثاني ـ أن يكون على سبيل التضرع ، وهو التذلل والخضوع والاعتراف بالتقصير ، ليتحقق بذلة العبودية لعزة الربوبية.
الثالث ـ أن يكون على وجه الخيفة أي الخوف والخشية من سلطان الربوبية ، وعظمة الألوهية ، من المؤاخذة على التقصير في العمل ، لتخشع النفس ، ويخضع القلب.
الرابع ـ أن يكون دون الجهر ، لأنه أقرب إلى حسن التفكر. قال ابن كثير : فلهذا يستحب أن لا يكون الذكر نداء ولا جهرا بليغا. وفي الصحيحين (١) عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال : رفع الناس أصواتهم بالدعاء في بعض الأسفار ، فقال لهم النبيّ صلىاللهعليهوسلم : يا أيها الناس! اربعوا على أنفسكم ، فإنكم لا تدعون أصمّ ولا غائبا. إن الذي تدعونه سميع قريب ، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته. قال الإمام : المراد أن يقع الذكر متوسطا بين الجهر والمخافة ، كما قال تعالى : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) [الإسراء : ١١٠].
الخامس ـ أن يكون باللسان لا بالقلب وحده ، وهو مستفاد من قوله : (وَدُونَ الْجَهْرِ) لأن معناه : ومتكلما كلاما دون الجهر ، فيكون صفة لمعمول حال محذوفة معطوفا على (تَضَرُّعاً) ، أو هو معطوف على (فِي نَفْسِكَ). أي اذكره ذكرا في نفسك ، وذكرا بلسانك دون الجهر.
السادس ـ أن يكون بالغدوّ والآصال ، أي في البكرة والعشيّ. فتدل الآية على مزية هذين الوقتين ، لأنهما وقت سكون ودعة وتعبد واجتهاد. وما بينهما ، الغالب فيه الانقطاع إلى أمر المعاش. وقد روي : أن عمل العبد يصعد أول النهار وآخره ، فطلب الذكر فيهما ، ليكون ابتداء عمله واختتامه بالذكر.
ثم نهى تعالى عن الغفلة عن ذكره بقوله (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) أي من الذين يغفلون عن ذكر الله ، ويلهون عنه ، وفيه إشعار بطلب دوام ذكره تعالى ، واستحضار عظمته وجلاله وكبريائه ، بقدر الطاقة البشرية.
ثم ذكر تعالى ما يقوي دواعي الذكر ، وينهض الهمم إليه ، بمدح الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار ، لا يفترون ، فقال :
__________________
(١) أخرجه البخاري في : الجهاد ، ١٣١ ـ باب ما يكره من رفع الصوت بالتكبير ، حديث ١٤٢٣.
وأخرجه مسلم في : الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار ، حديث ٤٤ ـ ٤٧.