تنبيهات :
الأول ـ دلت الآية على وجوب مصابرة العدو ، أي الثبات عند القتال ، وتحريم الفرار منه يوم الزحف ، وعلى أنه من الكبائر. لأنه توعد عليه وعيدا شديدا.
الثاني ـ ظاهر الآية العموم لكل المؤمنين في كل زمن ، وعلى كل حال ، إلّا حالة التحرف أو التحيز ، وهو مروي عن ابن عبّاس ؛ واختاره أبو مسلم. قال الحاكم : وعليه أكثر الفقهاء.
وروي عن جماعة من السلف ؛ أن تحريم الفرار المذكور مختص بيوم (بدر) ، لقوله تعالى (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ) وأجيب بأن الإشارة في (يَوْمَئِذٍ) إلى يوم لقاء الزحف كما يفيده السياق ، لا إلى يوم بدر.
الثالث ـ ذهب جماعة من السلف إلى أن معنى قوله تعالى (أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) أي جماعة أخرى من المسلمين ، سوى التي هو فيها ، سواء قربت تلك الفئة أو بعدت وقد روي أن أبا عبيد قتل على الجسر بأرض فارس ، لكثرة الجيش من ناحية المجوس ، فقال عمر رضي الله عنه : لو تحيز إلي لكنت له فئة. وفي رواية عنه : أيها الناس! أنا فئتكم. وقال الضحاك : المتحيز إلى فئة ، الفارّ إلى النبيّ وأصحابه. وكذلك من فرّ اليوم إلى أميره أو أصحابه. وجنح إلى هذا ابن كثير حيث قال : من فرّ من سرية إلى أميره ، أو إلى الإمام الأعظم ، دخل في هذه الرخصة. ثم أورد حديث عبد الله بن عمر المروي عند الإمام أحمد (١) وأبي داود (٢) والترمذيّ (٣) وغيرهم. قال : كنت في سرية من سرايا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فحاص الناس حيصة ، فكنت فيمن حاص ، فقلنا : كيف نصنع ؛ وقد فررنا من الزحف ، وبؤنا بالغضب ، ثم قلنا : لو دخلنا المدينة. فبتنا! ثم قلنا : لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فإن كانت لنا توبة ، وإلا ذهبنا! فأتيناه قبل صلاة الغداة ، فخرج فقال : من القوم؟ فقلنا : نحن الفرارون. فقال : لا ، بل أنتم العكّارون ، أنا فئتكم وفئة المسلمين ، قال : فأتيناه حتى قبلنا يده. قال الترمذي : حديث حسن ، لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن أبي زياد ـ انتهى ـ أي وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة. قال الحاكم في (مسألة الفرار) : إن ذلك يرجع إلى ظن المقاتل واجتهاده. فإن ظن المقاومة لم يحلّ الفرار. وإن ظن الهلاك ، جاز الفرار
__________________
(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٢ / ٧٠ والحديث رقم ٥٣٨٤.
(٢) أخرجه أبو داود في : الجهاد ، ٩٦ ـ باب في التولي يوم الزحف ، حديث ٢٦٤٧.
(٣) أخرجه الترمذي في : الجهاد ، ٣٧ ـ باب ما جاء في الفرار من الزحف.