القول في تأويل قوله تعالى :
(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) (٢٥)
(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) أي في مواقف حروب كثيرة ، ووقعات شهيرة ، كغزوة بدر وقريظة والنضير والحديبية وخيبر وفتح مكة. وكانت غزوات رسول الله صلىاللهعليهوسلم ـ على ما ذكر في الصحيحين (١) ـ من حديث زيد بن أرقم ، تسع عشرة غزوة. زاد بريدة في حديث : قاتل في ثمان منهن ويقال : إن جميع غزواته وسراياه وبعوثه سبعون ، وقيل ثمانون (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) أي فاعتمدتم عليها ، حيث قلتم : لن نغلب اليوم من قلة (فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً) أي من أمر العدوّ ، مع قلتهم (وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) أي برحبها وسعتها. والباء للملابسة والمصاحبة. أي ضاقت ، مع سعتها ، عليكم. وهو استعارة تبعية ، إما لعدم وجدان مكان يقرّون به آمنين مطمئنين من شدة الرعب ، أو أنهم لا يجلسون في مكان ، كما لا يجلس في المكان الضيق (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) أي منهزمين.
القول في تأويل قوله تعالى :
(ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) (٢٦)
(ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ) أي ما تسكنون به ، وتثبتون من رحمته ونصره ، وانهزام الكفار ، واطمئنان قلوبهم للكرّ بعد الفرّ (عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي الذين انهزموا. وإعادة الجارّ للتنبيه على اختلاف حاليهما. أو الذين ثبتوا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولم يفروا : أو على الكل ، وهو الأنسب. ولا ضير في تحقيق أصل السكينة في الثابتين من قبل ، والتعرض لوصف الإيمان للإشعار بعليّة الإنزال. أفاده أبو السعود (وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) يعني الملائكة (وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي بالقتل والأسر والسبي (وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) لكفرهم في الدنيا.
__________________
(١) أخرجه البخاري في : المغازي ، ١ ـ باب غزوة العشيرة أو العسيرة حديث رقم ١٨٣٩.
ومسلم في : الجهاد والسير ، حديث رقم ١٤٣.