كانوا يوصون قوادهم باحترام العبّاد الذين انقطعوا عن العامة في الصوامع والأديار لمجرد العبادة ، كما كانوا يوصونهم باحترام دماء النساء والأطفال ؛ وكل من لم يعن على القتال. جاءت السنة المتواترة بالنهي عن إيذاء أهل الذمة ، وبتقرير ما لهم من الحقوق على المسلمين ، لهم ما لنا ، وعليهم ما علينا ، ومن آذى ذميّا فليس منا. واستمر العمل على ذلك ما استمرت قوة الإسلام. ولست أبالي إذا انحرف بعض المسلمين عن هذه الأحكام عند ما بدأ الضعف في الإسلام وضيق الصدر من طبع الضعيف ، فذلك مما لا يلصق بطبيعته ، ويخلط بطينته.
المسيحية السلمية كانت ترى لها حق القيام على كل دين يدخل تحت سلطانها ، تراقب أعمال أهله ، وتخصصهم دون الناس بضروب من المعاملة لا يحتملها الصبر ، مهما عظم ، حتى إذا تمت لها القدرة على طردهم بعد العجز عن إخراجهم من دينهم ، وتعميدهم ، أجلتهم عن ديارهم ، وغسلت الديار من آثارهم ، كما حصل ويحصل في كل أرض استولت عليها أمة مسيحية استيلاء حقيقيا ، لا يمنع غير المسيحي من تعدي المسيحي إلا كثرة العدد ، أو شدة العضد ، كما شاهد التاريخ ، وكما يشهد كاتبوه.
ثم قال : فأنت ترى الإسلام يكتفي من الأمم والطوائف التي يغلب على أرضها ، بشيء من المال ، أقل مما كانوا يؤدونه من قبل تغلّبه عليهم ، وبأن يعيشوا في هدوء ، لا يعكرون معه صفو الدولة ، ولا يخلّون بنظام السلطة العامة ، ثم يرخى لهم بعد ذلك عنان الاختيار في شؤونهم الخاصة بهم ، لا رقيب عليهم فيها إلا ضمائرهم. انتهى.
وفي كتاب (أشهر مشاهير الإسلام) في بحث إجلاء أهل نجران ما نصه :
إن أساس الدعوة إلى الإسلام التبليغ ، وأنه لا إكراه في الدين ، فمن قبلها كان من المسلمين ، ومن أبى فعليه أن يخضع لسلطانهم ، وأن يعطيهم جزءا من ماله يستعينون به على حماية ماله وعرضه ونفسه ، وله عليهم حق الوفاء بما عاهدوه عليه ، وأن لا يفتن عن دينه ، وأن تكون له الذمة والعهد أنّى حل ، وحيثما وجد من ممالك الإسلام ، ما دام وافيا بعهده ، مؤديا لجزيته ، لا يخون المسلمين ، ولا يمالئ عليهم عدوّهم ، وأحسن شاهد على هذا نسوقه إليك في هذا الفصل ، خبر أهل نجران اليمن ، وكانوا من الكتابيين ، لتعلم كيف كانت معاملة أهل الذمة ، ومبلغ محافظة الخلفاء على عهودهم معهم ، ما لم يخونوا أو يغدروا.