وتحرير الخبر عنهم أنه كان وفد وفدهم على رسول الله ودعاهم إلى الإسلام ، فأبوا ، وسألوه الصلح ، وأن يقبل منهم الجزاء ، فصالحهم على شيء معلوم ، يؤدونه كل سنة للمسلمين وكتب لهم بذلك كتابا جعل لهم فيه ذمة الله وعهده ، وأن لا يفتنوا عن دينهم ، ومراتبهم فيه ، ولا يحشروا ، ولا يعشروا ، وأن يؤمنوا على أنفسهم وملتهم وأرضهم وأموالهم وغائبهم وشاهدهم وعيرهم ، وبعثهم وأمثلتهم. لا يغير ما كانوا عليه ، ولا يغير حق من حقوقهم ، ولا يطأ أرضهم جيش ومن سأل منهم حقّا فبينهم النصف ، غير ظالمين ولا مظلومين ، ولهم على ذلك جوار الله ، وذمة رسوله أبدا ، حتى يأتي أمر الله ، ما نصحوا وأصلحوا. واشترط عليهم أن لا يأكلوا الربا ، ولا يتعاملوا به.
ولما توفي رسول الله صلىاللهعليهوسلم واستخلف أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، أقرهم على حالهم ، وكتب لهم كتابا على نحو كتاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، مع أنه كان يتخوفهم ، ويود إجلاءهم ، لما روي (١) أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «لا يبقين في جزيرة العرب دينان».
ولما حضر أبا بكر الوفاة ، أوصى عمر بن الخطاب بإجلائهم لنقضهم العهد بإصابتهم الربا.
فانظر كيف أن النبيّ صلىاللهعليهوسلم كان يرى أن لا يجتمع في جزيرة العرب دينان ، لأن العرب أمة حديثة عهد بالإسلام ، قد عانى صلىاللهعليهوسلم ما عانى في جمع كلمتها ، وتوحيد وجهتها ، فمن الخطر أن يوجد بين ظهرانيها قوم يدينون بغير دينها ، فيفتنون من جاورهم عن الإسلام ، على حداثة عهدهم فيه ، وعدم تمكنهم بعد من أصوله الصحيحة. هذا من وجه ، ومن وجه آخر ، فإن النجرانيين كانوا يتاجرون بالربا ، ولا يخفى ما فيه من الضرر على من جاورهم من أهل اليمن ، الذين ينضب التعامل بالربا معين ثروتهم ، ويؤذن بفقرهم ، على غير شعور منهم ، لا سيّما وأن الشريعة الإسلامية قد حرمته تحريما باتّا ، ولا يؤمن من أن النجرانيين ، باستمرارهم على تعاطي الربا ، يحملون بعض من جاورهم من المسلمين على ارتكاب الإثم بالتعامل معهم بالربا. ومع هذه الأسباب التي تلجئ إلى إكراه النجرانيين على الإسلام ، فإن النبيّ صلىاللهعليهوسلم لم
__________________
(١) أخرجه الإمام مالك في الموطأ مرسلا في : الجامع ، الحديث رقم ١٧ و ١٨ و ١٩. وأخرجه الإمام أحمد في المسند ص ٢٧٥ ج ٦ عن عائشة متصلا.