والمعنى : ولو لا كراهة أن تهلكوا ـ أيها المؤمنين ـ أناسا مؤمنين موجودين في مكة بين كفارها ، وأنتم لا تعرفونهم ، فيصيبكم بسبب إهلاكهم مكروه ، لو لا كل ذلك لما كف أيديكم عن كفار مكة ، بل لسلطكم عليهم لكي تقتلوهم.
واللام في قوله ـ سبحانه ـ : (لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) متعلقة بما يدل عليه جواب لو لا المقدر.
أى : لو لا ذلك لما كف أيديكم عن كفار مكة ، ولكنه ـ سبحانه ـ كف أيديكم عنهم ، ليدخل في رحمته بسبب هذا الكف من يشاء من عباده ، وعلى رأس هؤلاء العباد ، المؤمنون والمؤمنات الذين كانوا في مكة ، والذين اقتضت رحمته أن يتمم لهم أجورهم بإخراجهم من بين ظهراني الكفار ، ويفك أسرهم ، ويرفع ما كان ينزل بهم من العذاب ...
كذلك قد شملت رحمته ـ تعالى ـ بعض كفار مكة ، الذين تركوا بعد ذلك الكفر ودخلوا في الإسلام ، كأبى سفيان وغيره من الذين أسلموا بعد فتح مكة أو بعد صلح الحديبية.
وقوله ـ سبحانه ـ : (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) تأكيد لما دل عليه الكلام السابق ، من أن حكمته ـ تعالى ـ قد اقتضت كف أيدى المؤمنين عن الكافرين ، رحمة بالمؤمنين الذين يعيشون في مكة مع هؤلاء الكافرين.
وقوله (تَزَيَّلُوا) أى : تميّزوا. يقال : زلته زيلا ، أى : مزته ، وزيله فتزيل أى : فرقه فتفرق أى : لو تميز هؤلاء المؤمنون والمؤمنات الذين يعيشون في مكة عن كفارها وفارقوهم وخرجوا منها ، وانعزلوا عنهم ، لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ، تارة عن طريق إهلاكهم ، وتارة عن طريق إذلالهم وأخذهم أسرى ، و «من» في قوله (مِنْهُمْ) للبيان لا للتبعيض.
ثم بين ـ سبحانه ـ ما كان عليه المشركون من جهالات وحماقات استولت على نفوسهم فقال : (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ).
والظرف (إِذْ) منصوب بفعل مقدر. والحمية : الأنفة والتكبر والغرور والتعالي بغير حق. يقال : حمى أنفه من الشيء ـ كرضى ـ إذا غضب منه ، وأعرض عنه.
أى : واذكر ـ أيها العاقل ـ وقت أن تمسك الكافرون وقيدوا أنفسهم بالحمية الباطلة ، التي هي حمية الملّة الجاهلية ، حيث منعوا المسلمين من دخول مكة ، ومن الطواف بالمسجد الحرام ، وحيث منعوا الهدى من أن يبلغ محله ، وحيث أبوا أن يكتب في الصحيفة التي عقدت بينهم وبين المسلمين ، بسم الله الرّحمن الرّحيم ، أو محمد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ... فهذا كله من حميتهم الجاهلية التي لا أساس لها من علم أو خلق أو دين ....