وقوله ـ تعالى ـ : (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) تعليل لما يعرب عنه الكلام ، من إيجاده ـ تعالى ـ لهم على هذه الصفات الكريمة.
أى : جعلهم ـ سبحانه ـ كذلك بأن وفقهم لأن يكونوا أشداء على الكفار ، ولأن يكونوا رحماء فيما بينهم ، ولأن يكونوا مواظبين على أداء الطاعات .. لكي يغيظ بهم الكفار ، فيعيشوا وفي قلوبهم حسرة مما يرونه من صفات سامية للمؤمنين.
ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بهذا الوعد الجميل ، فقال : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً).
و «من» في قوله (مِنْهُمْ) الراجح أنها للبيان والتفسير ، كما في قوله ـ تعالى ـ (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ ..).
أى : وعد الله ـ تعالى ـ بفضله وإحسانه ، الذين آمنوا وعملوا الصالحات. وهم أهل بيعة الرضوان ، ومن كان على شاكلتهم في قوة الإيمان .. وعدهم جميعا مغفرة لذنوبهم ، وأجرا عظيما لا يعلم مقداره إلا هو ـ سبحانه ـ.
ويجوز أن تكون من هنا للتبعيض ، لكي يخرج من هؤلاء الموعودين بالمغفرة والأجر العظيم أولئك الذين أظهروا الإسلام وأخفوا الكفر ، وهم المنافقون الذين أبوا مبايعة الرسول صلىاللهعليهوسلم وأبوا الخروج معه للجهاد ، والذين من صفاتهم أنهم كانوا إذا لقوا المؤمنين قالوا آمنا ، (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ ..).
هذا ، وقد أخذ العلماء من هذه الآية وأمثالها : وجوب احترام الصحابة وتوقيرهم ، والثناء عليهم ، لأن الله ـ تعالى ـ قد مدحهم ووعدهم بالمغفرة وبالأجر العظيم.
قال القرطبي : «روى أبو عروة الزبيري من ولد الزبير أنه قال : كنا عند مالك بن أنس ، فذكروا رجلا ينتقص أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقرأ مالك هذه الآية : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ..). فقال مالك : من أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقد أصابته هذه الآية. ثم قال الإمام القرطبي ـ رحمهالله ـ : قلت : لقد أحسن مالك في مقالته وأصاب في تأويله ، فمن نقص واحدا منهم أو طعن عليه في روايته ، فقد رد على الله رب العالمين ، وأبطل شرائع المسلمين» .. (١).
وبعد : فهذا تفسير لسورة «الفتح» تلك السورة التي بشرت الرسول صلىاللهعليهوسلم وأصحابه
__________________
(١) راجع تفسير القرطبي ج ١٦ ص ٢٩٦.