وصدق الله إذ يقول : (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ ، تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ ، فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ ، وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ. لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١).
قال صاحب الكشاف : «وهذا مثل ضربه الله ـ تعالى ـ لبدء أمر الإسلام وترقيه في الزيادة إلى أن قوى واستحكم. لأن النبي صلىاللهعليهوسلم قام وحده ، ثم قواه الله ـ تعالى ـ بمن معه. كما يقوى الطاقة الأولى من الزرع ما يحتف بها مما يتولد منها ، حتى يعجب الزراع» (٢).
وعلى هذا التفسير الذي سرنا عليه يكون وصفهم في التوراة ، هو المعبر عنه بقوله ـ تعالى ـ : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ..) ويكون وصفهم في الإنجيل هو المعبر عنه بقوله ـ سبحانه ـ : (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ ...).
ولا شك أن هذه الأوصاف كانت موجودة في الكتابين قبل أن يحرفا ويبدلا ، بل بعض هذه الأوصاف موجودة في الكتابين ، حتى بعد تحريفهما.
فقد أخرج بن جرير وعبد بن حميد عن قتادة قال : «مكتوب في الإنجيل سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ..» (٣).
ويرى بعض المفسرين أن المذكور في التوراة والإنجيل شيء واحد ، وهو الوصف المذكور إلى نهاية قوله : (وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) وعلى هذا الرأى يكون الوقف تاما على هذه الجملة ، وما بعدها وهو قوله : (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ ..) كلام مستأنف.
قال القرطبي : «قوله ـ تعالى ـ : (ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ ..) قال الفراء : فيه وجهان : إن شئت قلت : المعنى : ذلك مثلهم في التوراة وفي الإنجيل أيضا ، كمثلهم في القرآن ، فيكون الوقف على «الإنجيل».
وإن شئت قلت : تمام الكلام : ذلك مثلهم في التوراة. ثم ابتدأ فقال : ومثلهم في الإنجيل.
وكذا قال ابن عباس وغيره : هما مثلان ، أحدهما في التوراة ، والآخر في الإنجيل ...» (٤).
والذي نراه أن ما ذهب إليه ابن عباس من كونهما مثلين ، أحدهما مذكور في التوراة والآخر في الإنجيل ، هو الرأى الراجح ، لأن ظاهر الآية يشهد له.
وفي هذه الصفات ما فيها من رسم صورة مشرقة مضيئة لهؤلاء المؤمنين الصادقين.
__________________
(١) سورة الأنفال الآية ٢٦.
(٢) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٣٤٨.
(٣) راجع تفسير سورة الفتح ص ١٦٠ لفضيلة استأذنا الشيخ أحمد الكومى.
(٤) تفسير القرطبي ج ١٦ ص ٢٩٤.