ويصح أن يكون مضارع قدّم المتعدى ، تقول : قدمت فلانا على فلان ، إذا جعلته متقدما عليه ، وحذف المفعول لقصد التعميم.
وقوله : (بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) تشبيه لمن يتعجل في إصدار حكم من أحكام الدين بغير استناد إلى حكم الله ورسوله ، بحالة من يتقدم بين يدي سيده أو رئيسه ، بأن يسير أمامه في الطريق ، أو على يمينه أو شماله. وحقيقة الجلوس بين يدي الشخص : أن يجلس بين الجهتين المقابلتين ليمينه أو شماله قريبا منه أو أمامه.
قال الجمل قوله : (بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) جرت هذه العبارة هنا على سنن من المجاز ، وهو الذي يسميه أهل البيان تمثيلا ، أى : استعارة تمثيلية ، شبّه تعجل الصحابة في إقدامهم على قطع الحكم في أمر من أمور الدين ، بغير إذن الله ورسوله ، بحالة من تقدم بين يدي متبوعه إذا سار في طريق ، فإنه في العادة مستهجن .. والغرض تصوير كمال الهجنة ، وتقبيح قطع الحكم بغير إذن الله ورسوله.
أو المراد : بين يدي رسول الله ، وذكر لفظ الجلالة على سبيل التعظيم للرسول صلىاللهعليهوسلم وإشعار بأنه من الله بمكان يوجب إجلاله (١).
والمعنى : يا من آمنتم بالله ـ تعالى ـ حق الإيمان : احذروا أن تتسرعوا في الأحكام ، فتقولوا قولا ، أو تفعلوا فعلا يتعلق بأمر ديني ، دون أن تستندوا في ذلك إلى الله ـ تعالى ـ وحكم رسوله صلىاللهعليهوسلم (وَاتَّقُوا اللهَ) ـ تعالى ـ في كل ما تأتون وتذرون ، إن الله سميع لأقوالكم ، عليم بجميع أحوالكم.
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : هذه آداب أدب الله ـ تعالى ـ بها عباده المؤمنين ، فيما يعاملون به الرسول صلىاللهعليهوسلم من التوقير والاحترام والتبجيل والإعظام.
فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ).
أى : لا تسرعوا في الأشياء بين يديه. أى : قبله ، بل كونوا تبعا له في جميع الأمور ، حتى يدخل في عموم هذا الأدب الشرعي ، حديث معاذ ، إذ قال له النبي صلىاللهعليهوسلم حين بعثه إلى اليمن : «بم تحكم؟ قال بكتاب الله ، قال : فإن لم تجد؟ قال فبسنة رسول الله ، قال : فإن لم تجد؟ قال : أجتهد رأيى».
فالغرض منه أنه أخّر رأيه ونظره واجتهاده ، إلى ما بعد الكتاب والسنة ، ولو قدمه قبل
__________________
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ١٧٤.