ومن المعروف بين العلماء ، أن العبرة بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب.
وقوله : (يَسْخَرْ) من السخرية ، وهي احتقار الشخص لغيره بالقول أو بالفعل ، يقال : سخر فلان من فلان ، إذا استهزأ به ، وجعله مثار الضحك ، ومنه قوله ـ تعالى ـ حكاية عن نوح مع قومه : (.. قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ) (١).
قال صاحب الكشاف : والقوم : الرجال خاصة ، لأنهم القوام بأمور النساء .. واختصاص القوم بالرجال صريح في الآية ، وفي قول الشاعر : أقوم آل حصن أم نساء.
وأما قولهم في قوم فرعون وقوم عاد : هم الذكور والإناث ، فليس لفظ القوم بمتعاطف للفريقين ، ولكن قصد ذكر الذكور ، وترك ذكر الإناث لأنهن توابع لرجالهن (٢).
أى : يا من آمنتم بالله حق الإيمان ، لا يحتقر بعضكم بعضا ولا يستهزئ بعضكم من بعض.
وقوله : (عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) تعليل للنهى عن السخرية. أى : عسى أن يكون المسخور منه خيرا عند الله ـ تعالى ـ من الساخر ، إذ أقدار الناس عنده ـ تعالى ـ ليست على حسب المظاهر والأحساب .. وإنما هي على حسب قوة الإيمان ، وحسن العمل.
وقوله : (وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَ). معطوف على النهى السابق ، وفي ذكر النساء بعد القوم قرينة على أن المراد بالقوم الرجال خاصة.
أى : عليكم يا معشر الرجال أن تبتعدوا عن احتقار غيركم من الرجال ، وعليكن يا جماعة النساء أن تقلعن إقلاعا تاما عن السخرية من غيركن.
ونكر ـ سبحانه ـ لفظ (قَوْمٌ) و (نِساءٌ) ، للإشعار بأن هذا النهى موجه إلى جميع الرجال والنساء ، لأن هذه السخرية منهى عنها بالنسبة للجميع.
وقد جاء النهى عن السخرية موجها إلى جماعة الرجال والنساء ، جريا على ما كان جاريا في الغالب ، من أن السخرية كانت تقع في المجامع والمحافل ، وكان الكثيرون يشتركون فيها على سبيل التلهي والتلذذ.
ثم قال ـ تعالى ـ (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) أى : ولا يعب بعضكم بعضا بقول أو إشارة سواء أكان على وجه يضحك أم لا ، وسواء كان بحضرة الملموز أم لا ، فهو أعم من السخرية
__________________
(١) سورة هود الآية ٣٨.
(٢) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٣٦٧.