الناس ، فلم يؤمنوا به ، بل جعلوا كلا من المنذر والمنذر به عرضة للتكبر والتعجب ، مع كونهما أوفق شيء لقضية العقول ، وأقربه إلى التلقي بالقبول ..
وقوله : (أَنْ جاءَهُمْ) بتقدير لأن جاءهم ، ومعنى «منهم» أى : من جنسهم ، وضمير الجمع يعود إلى الكفار ..
وقوله : (فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) تفسير لتعجبهم .. وإضمارهم أولا ، للإشعار بتعينهم بما أسند إليهم ، وإظهارهم ثانيا ، لتسجيل الكفر عليهم .. (١).
وقوله ـ سبحانه ـ : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) تقرير للتعجب ، وتأكيد للإنكار الصادر عنهم ، والعامل في «إذا» مضمر لدلالة ما بعده عليه ..
أى : أحين نموت ونصير ترابا وعظاما نرجع إلى الحياة مرة أخرى ، كما يقول محمد صلىاللهعليهوسلم ، وكما يقول القرآن الذي نزل عليه.
لا ، إننا لن نبعث ولن نعود إلى الحياة مرة أخرى ، وما يخبرنا به محمد صلىاللهعليهوسلم من أن الرجوع إلى الحياة مرة أخرى حق ، كلام بعيد عن عقولنا وأفهامنا.
فاسم الإشارة «ذلك» يعود إلى محل النزاع وهو الرجوع إلى الحياة مرة أخرى ، والبعث بعد الموت. والرجع بمعنى الرجوع. يقال : رجعته أرجعه رجعا ورجوعا ، بمعنى أعدته .. ومنه قوله ـ تعالى ـ : (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ).
أى : ذلك الرجوع إلى الحياة مرة أخرى بعيد عن الأفهام ، وعن العادة ، وعن الإمكان.
وبعد هذا التصوير الأمين لحججهم وأقوالهم ، ساق ـ سبحانه ـ الرد الذي يدفع تلك الحجج والأقوال فقال : (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ).
أى : قد علمنا علما تاما دقيقا ما تأكله الأرض من أجسادهم بعد موتهم ، ومن علم ذلك لا يعجزه أن يعيدهم إلى الحياة مرة أخرى.
وقوله ـ سبحانه ـ : (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) تأكيد وتقرير لما قبله.
أى : وعندنا بجانب علمنا الشامل الدقيق. كتاب حافظ لجميع أحوال العباد ، ومسجلة فيه أقوالهم وأفعالهم ، والمراد بهذا الكتاب : اللوح المحفوظ.
ثم كشف ـ سبحانه ـ عن حقيقة أحوالهم ، وعن الأسباب التي دفعتهم إلى إيثار الباطل على الحق فقال : (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ ، فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ). أى : إن هؤلاء
__________________
(١) تفسير الآلوسى ج ٢٦ ص ١٧٢.