بعضهم لبعض ، وعمل بعضهم لبعض ، فالغنى ـ مثلا ـ يقدم المال لغيره ، نظير ما يقدمه له ذلك الغير من عمل معين ..
وبذلك تنتظم أمور الحياة ، وتسير في طريقها الذي رسمه ـ سبحانه ـ لها.
قال الجمل ما ملخصه : قوله : (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) أى : ليستخدم بعضهم بعضا ، فيسخر الأغنياء بأموالهم ، الأجراء الفقراء بالعمل ، فيكون بعضهم سببا لمعاش بعض ، هذا بماله ، وهذا بأعماله ، فيلتئم قوام العالم ، لأن الأرزاق لو تساوت لتعطلت المعايش ، فلم يقدر أحد منهم أن ينفك عما جعلناه إليه من هذا الأمر الدنىء ، فكيف يطمعون في الاعتراض في أمر النبوة ، أيتصور عاقل أن نتولى قسم الناقص ، ونكل العالي إلى غيرنا ..؟ (١).
هذا ، والمتأمل في هذه الآية الكريمة يراها تقرر سنة من سنن الله ـ تعالى ـ التي لا تغيير لها ولا تبديل ، والتي تؤيدها المشاهدة في كل زمان ومكان ، فحتى الدول التي تدعى المساواة في كل شيء .. ترى سمة التفاوت في الأرزاق وفي غيرها واضحة جلية ، وصدق الله في قوله : (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ).
ومن الآيات التي تشبه هذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ ...) (٢).
وقوله ـ سبحانه ـ : (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ، وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ ، وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) (٣).
ثم ختم ـ سبحانه ـ هذا التهوين لحطام الدنيا فقال : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ، لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ ، وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ).
و (لَوْ لا) حرف امتناع لامتناع. والكلام على حذف مضاف. والمراد بالأمة الواحدة : أمة الكفر. والمعارج جمع معرج وهي المصاعد التي يصعد عليها إلى أعلى.
أى : ولو لا كراهة أن يكون الناس جميعا أمة واحدة مجتمعة على الكفر حين يشاهدون سعة الرزق ، ورفاهية العيش ، ظاهرة بين الكافرين ..
لو لا كراهية ذلك. لجعلنا بمشيئتنا وقدرتنا ، لمن يكفر بالرحمن ، الشيء الكثير من حطام الدنيا ، بأن نجعل لبيوتهم سقفا من فضة ، ولجعلنا لهم مصاعد فخمة عليها يرقون إلى أعلى مساكنهم.
__________________
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٨٤.
(٢) سورة النحل آية ٧١.
(٣) سورة الإسراء آية ٢١.