وهذا منهم ـ كما يقول الآلوسى ـ لجهلهم بأن رتبة الرسالة ، إنما تستدعى عظيم النفس ، بالتخلي عن الرذائل الدنية ، والتحلي بالكمالات والفضائل القدسية ، دون التزخرف بالزخارف الدنيوية (١).
وقد وبخهم الله ـ تعالى ـ على جهلهم هذا بقوله : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ..) فالاستفهام للإنكار والتهكم بهم ، والتعجب من تفكيرهم.
والمراد بالرحمة : ما يشمل النبوة ، وما أنزله على نبيه صلىاللهعليهوسلم من وحى ، وما منحه إياه من خلق كريم ، وخير عميم.
أى : كيف بلغ الجهل والغباء بهؤلاء المشركين إلى هذه الدرجة؟ إنهم ليس بيدهم ولا بيد غيرهم عطاء ربك ، وليس عندهم مفاتيح الرسالة ليضعوها حيث شاءوا ، وليختاروا لها من أرادوا. ومادام الأمر كذلك فكيف يعترضون على نزول القرآن عليك ـ أيها الرسول الكريم ـ؟.
ثم بين ـ سبحانه ـ مظاهر قدرته في خلقه فقال : (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ...) أى : نحن قسمنا بينهم أرزاقهم في هذه الدنيا ، ولم نترك تقسيمها لأحد منهم ، ونحن الذين ـ بحكمتنا ـ تولينا تدبير أسبابها ولم نكلها إليهم لعلمنا بعجزهم وقصورهم. ونحن الذين رفعنا بعضهم فوق بعض درجات في الدنيا ، فهذا غنى وذاك فقير ، وهذا مخدوم ، وذاك خادم ، وهذا قوى ، وذاك ضعيف.
ثم ذكر ـ سبحانه ـ الحكمة من هذا التفاوت في الأرزاق فقال : (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا).
أى : فعلنا ذلك ليستخدم بعضهم بعضا في حوائجهم ، ويعاون بعضهم بعضا في مصالحهم ، وبذلك تنتظم الحياة ، وينهض العمران. ويعم الخير بين الناس ، ويصل كل واحد إلى مطلوبه على حسب ما قدر الله ـ تعالى ـ له من رزق واستعداد ..
ولو أنا تركنا أمر تقسيم الأرزاق إليهم لتهارجوا وتقاتلوا ، وعم الخراب في الأرض ، لأن كل واحد منهم يريد أن يأخذ ما ليس من حقه ، لأن الحرص والطمع من طبيعته.
وإذا كان هذا هو حالهم بالنسبة لأمور دنياهم فكيف أباحوا لأنفسهم التحكم في منصب النبوة ، وهو بلا شك أعلى شأنا ، وأبعد شأوا من أمور الدنيا.
وقوله (سُخْرِيًّا) بضم السين ـ من التسخير ، بمعنى تسخير بعضهم لبعض وخدمة
__________________
(١) تفسير الآلوسى ج ٢٥ ص ٧٨.