ويؤيد هذا المعنى قوله ـ تعالى ـ : (فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ ، وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ) (١).
قال القرطبي : قوله : (وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً ...) يريد هذه الفعلة عبرة.
وقيل : أراد السفينة ، تركها آية لمن بعد قوم نوح يعتبرون بها فلا يكذبون الرسل ..
قال قتادة : أبقاها الله ـ تعالى ـ بباقردى ، من أرض الجزيرة ـ قرب الموصل بالعراق ـ لتكون عبرة وآية ، حتى نظر إليها أوائل هذه الأمة ، وكم من سفينة صارت بعدها رمادا ... (٢).
ويبدو لنا أن الآية الكريمة تتسع للرأيين فهذه العقوبة التي أنزلها ـ سبحانه ـ بقوم نوح ـ عليهالسلام ـ بقيت عبرة لمن بعدهم لينزجروا ، ويكفوا عن تكذيب الرسل ، كما أن السفينة قد أبقاها ـ سبحانه ـ بعد إغراقهم إلى الزمن الذي قدره وأراده ، لتكون ـ أيضا ـ عبرة وعظة لغيرهم.
والاستفهام في قوله : (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) للحض على التذكر والاعتبار ، ولفظ (مُدَّكِرٍ) أصله مذتكر من الذّكر الذي هو ضد النسيان ، فأبدلت التاء دالا مهملة ، وكذا الذال المعجمة ثم أدغمت فيها ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ ...) أى : وتذكر بعد نسيان.
أى : ولقد تركنا ما فعلناه بقوم نوح عبرة ، فاعتبروا بذلك ـ أيها الناس ـ ، وأخلصوا لله ـ تعالى ـ العبادة والطاعة ، لتنجوا من غضبه وعقابه.
والاستفهام في قوله ـ سبحانه ـ : (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) للتهويل والتعجيب من شدة هذا العذاب الذي حاق بقوم نوح ـ عليهالسلام ـ.
أى : فكيف كان عذابي لهم ، وإنذارى إياهم؟ لقد كانا على كيفية هائلة لا يحيط بها الوصف ، ولا تحدها العبارة.
والنذر : مفردة نذير ، وجمع لتكرار الإنذار من نوح ـ عليهالسلام ـ لقومه.
قال الجمل : وقرئ في السبع بإثبات الياء وحذفها. وأما في الرسم فلا تثبت لأنها من ياءات الزوائد ، وكذا يقال في المواضع الآتية كلها .. (٣).
__________________
(١) سورة العنكبوت الآية ١٥.
(٢) تفسير القرطبي ج ١٧ ص ١٣٣.
(٣) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٨٤.