الْعِظامَ لَحْماً ، ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (١).
فإن قيل : إنهم كانوا يعترفون بأن الله ـ تعالى ـ قد خلقهم ، بدليل قوله ـ تعالى ـ : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ ...) فما فائدة قوله ـ سبحانه ـ (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ ...)؟
فالجواب أنهم لما كان اعترافهم بمنزلة العدم ، حيث أشركوا مع الله ـ تعالى ـ آلهة أخرى في العبادة قيل لهم على سبيل الإلزام والتبكيت : (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ ...).
ثم ذكر ـ سبحانه ـ بعد ذلك أربعة أدلة على صحة هذا البعث وإمكانه ، أما الدليل الأول فتراه في قوله ـ تعالى ـ : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ ...).
وقوله : (تُمْنُونَ) مأخوذ من أمنى بمعنى قذف المنى ، يقال : أمنى الرجل النطفة ، إذا قذفها. والاستفهام للتقرير ، والرؤية علمية. و (ما) موصولة وهي المفعول الأول لقوله (أَفَرَأَيْتُمْ) والجملة الفعلية صلة الموصول ، والعائد إلى الموصول محذوف. وجملة : أأنتم تخلقونه ... هو المفعول الثاني.
والضمير المنصوب في قوله : (تَخْلُقُونَهُ) يعود إلى الاسم الموصول في قوله : (ما تُمْنُونَ). أى : أخبرونى ـ أيها المشركون عما تصبونه وتقذفونه من المنى في أرحام النساء؟ أأنتم تخلقون ما تمنونه من النطف علقا فمضغا .. أم نحن الذين خلقنا ذلك؟ لا شك أنكم تعرفون بأننا نحن الذين خلقنا كل ذلك ، وما دام الأمر كما تعرفون ، فلما ذا عبدتم مع الله ـ تعالى ـ آلهة أخرى.
فالاستفهام للتقرير حيث إنهم لا يملكون إلا الاعتراف بأن الله ـ تعالى ـ وحده خلق الإنسان في جميع أطواره.
قال الجمل : و (أَمْ) في هذه المواضع الأربعة منقطعة ، لوقوع جملة بعدها ، والمنقطعة تقدر ببل والهمزة الاستفهامية ، فيكون الكلام مشتملا على استفهامين ، الأول : أأنتم تخلقونه؟ وجوابه : لا. والثاني : مأخوذ من (أَمْ) أى : بل أنحن الخالقون؟ وجوابه نعم (٢).
ثم أكد سبحانه ـ خلقه لكل شيء ، وقدرته على كل شيء. فقال ـ تعالى ـ (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ. عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ ، وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ).
أى نحن وحدنا الذين قدرنا لموتكم آجالا مختلفة ، وأعمارا متفاوتة ، فمنكم من يموت
__________________
(١) سورة المؤمنون الآيات ١٢ ـ ١٤.
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٢٧٨.