وأصل التفكه : التنقل في الأكل من فاكهة إلى أخرى ، ثم استعير للتنقل من حديث إلى آخر ، وهو هنا ما يكون من أحاديثهم المتنوعة بعد هلاك الزرع.
والمراد بالتفكه هنا : التعجب والندم والتحسر على ما أصابهم.
وقوله ـ سبحانه ـ : (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) مقول لقول محذوف. أى : فصرتم بسبب تحطيم زروعكم تتعجبون ، وتقولون على سبيل التحسر : إنا لمهلكون بسبب هلاك أقواتنا ، من الغرام بمعنى الهلاك. أو إنا لمصابون بالغرم والاحتياج والفقر ، بسبب ما أصاب زرعنا. من الغرم وهو ذهاب المال بلا مقابل.
وتقولون ـ أيضا ـ : (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) من منافع هذا الزرع الذي كنا نعلق الآمال على الانتفاع به ، والاستفادة بثماره ..
قال الإمام القرطبي ـ رحمهالله ـ عند تفسيره لهذه الآيات : والمستحب لكل من يلقى البذر في الأرض أن يقرأ بعد الاستعاذة : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ ...) الآيات. ثم يقول : بل الله الزارع ، والمنبت والمبلغ. اللهم صل على محمد ، وارزقنا ثمر هذا الزرع ، وجنبنا ضرره ، واجعلنا لأنعمك من الشاكرين ، ولآلائك من الذاكرين ، وبارك فيه يا رب العالمين ... (١).
ثم ذكر ـ سبحانه ـ الدليل الثالث على إمكانية البعث ، وعلى كمال قدرته ـ تعالى ـ فقال : (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ. أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ. لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ).
أى : وأخبرونى ـ أيضا ـ عن الماء الذي تشربونه ، أأنتم الذين أنزلتموه من (الْمُزْنِ) أى. من السحاب أم نحن الذين أنزلناه؟.
لا شك أننا نحن الذين أنزلناه ، ولا تستطيعون إنكار ذلك ، لأن إنكاركم لذلك يعتبر نوعا من المكابرة المكشوفة ، والمغالطة المفضوحة.
وتخصيص هذا الوصف ، وهو (الَّذِي تَشْرَبُونَ) بالذكر ، مع كثرة منافع الماء ، لأن الشرب أهم المقاصد التي من أجلها أنزل ـ سبحانه ـ الماء من السحاب.
وقوله ـ سبحانه ـ : (لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً ...) بيان لمظهر من مظاهر رحمته ـ سبحانه ـ ومفعولي المشيئة هنا وفي ما قبله إلى قوله (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً ...) محذوف ، للاكتفاء عنه بجواب الشرط.
__________________
(١) تفسير القرطبي ج ١٧ ص ٢١٨.