أى : آمنوا ـ أيها الناس ـ بالله ـ تعالى ـ وبرسوله صلىاللهعليهوسلم إيمانا حقا ، وإن من مقتضيات هذا الإيمان ، أن تنفقوا من أموالكم في وجوه الخير ، فإن هذه الأموال هي عارية في أيديكم ، فقد ورثتموها من غيركم ، وغيركم سيرثها عنكم ، وهي في جميع الأحوال ملك لله ـ تعالى ـ وحده على الحقيقة.
قال القرطبي : قوله : (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) دليل على أن أصل الملك لله ـ سبحانه ـ وأن العبد ليس له فيه إلا التصرف الذي يرضى الله فيثيبه على ذلك بالجنة ، فمن أنفق منها في حقوق الله ، وهان عليه الإنفاق منها ، كما يهون على الرجل النفقة من مال غيره إذا أذن له فيه ، كان له الأجر الجزيل.
وقال الحسن : مستخلفين فيه : ورثتكم إياه عمن كان قبلكم.
وهذا يدل على أنها ليست بأموالكم في الحقيقة ، وما أنتم إلا بمنزلة النواب والوكلاء ، فاغتنموا الفرصة فيها بإقامة الحق ، قبل أن تزال عنكم إلى من بعدكم (١).
ثم بين ـ سبحانه ـ ما أعده لهؤلاء المنفقين فقال : (فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) إيمانا حقا .. (وَأَنْفِقُوا) أموالهم فيما يرضى الله ـ تعالى ـ (لَهُمْ) منه ـ عزوجل ـ (أَجْرٌ كَبِيرٌ) لا يعلم مقداره إلا الله ـ تعالى ـ.
ثم رغبهم ـ سبحانه ـ في الثبات على الإيمان بالله ورسوله فقال : (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ ، وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ ، وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
أى : وأى مانع يمنعكم من الثبات على الإيمان. ومن القيام بتكاليفه ، ومن إخلاص العبادة له ـ تعالى ـ وحده ، والحال أن الرسول صلىاللهعليهوسلم بينكم صباح مساء ، يدعوكم إلى الإيمان بربكم ، وقد أخذ ـ سبحانه ـ عليكم العهود والمواثيق على هذا الإيمان ، عن طريق ما ركب فيكم من عقول تعقل ، وعن طريق ما نصب لكم من أدلة متنوعة كلها تدل على وجوب إخلاص العبادة لله الواحد القهار.
قال : الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : أى : وأى شيء يمنعكم من الإيمان ، والرسول بين أظهركم يدعوكم إلى ذلك ، ويبين لكم الحجج والبراهين على صحة ما جاءكم به. وقد روينا في الحديث من طرق ، في أوائل شرح كتاب الإيمان من صحيح البخاري ، أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال يوما لأصحابه : «أى المؤمنين أعجب إليكم إيمانا؟» قالوا : الملائكة.
__________________
(١) راجع تفسير القرطبي ج ١٧ ص ٢٣٨.