(فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) أى : فذهب إلى أهله فذبح عجلا وشواه ، فقربه إلى ضيوفه وقال لهم : (أَلا تَأْكُلُونَ) أى : حضهم على الأكل شأن المضيف الكريم. فقال لهم على سبيل التلطف وحسن العرض : ألا تأكلون من طعامي.
قال ابن كثير : وهذه الآيات انتظمت آداب الضيافة ، فإنه جاء بطعامه من حيث لا يشعرون بسرعة. ولم يمتن عليهم أولا فقال : نأتيكم بطعام؟ بل جاء به بسرعة وخفاء ، وأتى بأفضل ما وجد من ماله ، وهو عجل سمين مشوى فقربه إليهم ، لم يضعه وقال : اقتربوا ، بل وضعه بين أيديهم ، ولم يأمرهم أمرا يشق على سامعه بصيغة الجزم ، بل قال : (أَلا تَأْكُلُونَ) على سبيل العرض والتلطف ، كما يقول القائل اليوم : إن رأيت أن تتفضل وتحسن وتتصدق. فافعل (١).
ولكن إبراهيم مع هذا العرض الحسن ، والكرم الواضح ، لم يجد من ضيوفه استجابة لدعوته. (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) أى : فأضمر في نفسه خوفا منهم حين رأى إعراضا عن طعامه ، مع حضهم على الأكل منه ، ومع جودة هذا الطعام.
وهنا كشف الملائكة له عن ذواتهم فقالوا (لا تَخَفْ) أى : لا تخف فإنا رسل الله (وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) أى : وبشروه بغلام سيولد له ، وسيكون كثير العلم عند ما يبلغ سن الرشد ، وهذا الغلام إسحاق ـ عليهالسلام ـ.
ثم يحكى القرآن بعد ذلك ما كان من امرأته بعد أن سمعت بهذه البشرى فقال : (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ).
أى : فأقبلت امرأة ابراهيم ـ عليهالسلام ـ وهي تصيح في تعجب واستغراب من هذه البشرى. فضربت بيدها على وجهها وقالت : أنا عجوز عقيم فكيف ألد؟.
والصرة : من الصرير وهو الصوت ، ومنه صرير الباب ، أى : صوته ، والصك الضرب الشديد على الوجه ، وعادة ما تفعله النساء إذا تعجبن من شيء.
وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ في سورة هود : (قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً ، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ).
وهنا رد عليها الملائكة بما يزيل تعجبها واستغرابها واستبعادها لأن يكون لها ولد مع كبر سنها ، ويحكى القرآن ذلك فيقول : (قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ).
أى : قال الملائكة لامرأة إبراهيم : لا تتعجبى من أن يكون لك غلام في هذه السن ، فإن
__________________
(١) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٣٩٧.