فالآية الكريمة صريحة في بيان أن ما يقع في الأرض وفي الأنفس من مصائب ـ ومن غيرها من مسرات ـ مكتوب ومسجل عند الله ـ تعالى ـ قبل خلق الأرض والأنفس.
وخص ـ سبحانه ـ المصائب بالذكر ، لأن الإنسان يضطرب لوقوعها اضطرابا شديدا ، وكثيرا ما يكون إحساسه بها ، وإدراكه لأثرها ، أشد من إحساسه وإدراكه للمسرات.
ومن الآيات التي تشبه هذه الآية في معناها قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا ، هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١).
ثم بين ـ سبحانه ـ الحكم التي من أجلها فعل ذلك فقال : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ ، وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ).
فاللام في قوله : (لِكَيْلا تَأْسَوْا ..) متعلقة بمحذوف. وقوله : (تَأْسَوْا) من الأسى ، وهو الحزن والضيق الشديد. يقال : أسى فلان على كذا ـ كفرح ـ فهو يأسى أسى ، إذا حزن واغتم لما حدث ، ومنه قوله ـ تعالى ـ حكاية عن شعيب ـ عليهالسلام ـ : (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ ، فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) (٢).
أى : فعلنا ما فعلنا من إثبات ما يصيبكم في كتاب من قبل خلقكم ، وأخبرناكم بذلك ، لكي لا تحزنوا على ما أصابكم من مصائب حزنا يؤدى بكم إلى الجزع ، وإلى عدم الرضا بقضاء الله وقدره ولكي لا تفرحوا بما أعطاكم الله ـ تعالى ـ من نعم عظمى وكثيرة .. فرحا يؤدى بكم إلى الطغيان وإلى عدم استعمال نعم الله ـ تعالى ـ فيما خلقت له .. فإن من علم ذلك علما مصحوبا بالتدبر والاتعاظ ... هانت عليه المصائب ، واطمأنت نفسه لما قضاه الله ـ تعالى ـ وكان عند الشدائد صبورا ، وعند المسرات شكورا.
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الآية : يعنى : أنكم إذا علمتم أن كل شيء مقدر مكتوب عند الله ، قلّ أساكم على الفائت ، وفرحكم على الآتي ، لأن من علم أن ما عنده مفقود لا محالة ، لم يتفاقم جزعه عند فقده ، لأنه وطن نفسه على ذلك ، وكذلك من علم أن بعض الخير واصل إليه ، وأن وصوله لا يفوته بحال ، لم يعظم فرحه عند نيله.
فإن قلت : فلا أحد يملك نفسه عند مضرة تنزل به ، ولا عند منفعة ينالها ، أن لا يحزن ولا يفرح؟
__________________
(١) سورة التوبة الآية ٥١.
(٢) سورة الأعراف الآية ٩٣.