وجملة (وَنَسُوهُ) حال من مفعول أحصى أى : والحال أنهم قد نسوا ما عملوه ، لتهاونهم به حين اقترفوه ، ولاعتقادهم بأنهم لن يسألوا عنه يوم القيامة ، فهم قد أنكروا البعث والحساب والثواب والعقاب.
ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أى : والله ـ تعالى ـ مشاهد لكل شيء في هذا الكون ، ولا تخفى عليه خافية من أحوال خلقه.
وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ، وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (١).
ثم أقام ـ سبحانه ـ الأدلة على شمول علمه فقال : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ، ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ).
والاستفهام في قوله : (أَلَمْ تَرَ ..) للتقرير ، والرؤية بمعنى العلم والإدراك القلبي .. والخطاب لكل من هو أهل له.
والنجوى : اسم مصدر بمعنى المسارة ، يقال : نجوته نجوا ونجوى وناجيته مناجاة ، أى : ساررته بكلام على انفراد. وأصله : ان تخلو بمن تناجيه بسر معين في نجوة من الأرض ، أى : في مكان مرتفع منفصل عما حوله.
وقيل : أصله من النجاة ، لأن الإسرار بالشيء فيه معاونة على النجاة.
وتطلق النجوى على القوم المتناجين ، كما في الآية التي معنا.
قال الآلوسى : وقوله ـ تعالى ـ : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) استئناف مقرر لما قبله من سعة علمه ـ تعالى ـ ، و «يكون» من كان التامة. و «من» مزيدة و «نجوى» فاعل ، وإضافتها إلى ثلاثة من إضافة المصدر إلى فاعله .. والاستثناء في قوله (إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) مفرغ من أهم الأحوال ... (٢).
والمعنى : لقد علمت ـ أيها العاقل ـ علما لا يخالطه شك أو تردد ، أن الله ـ تعالى ـ يعلم علما تاما ، ما في السموات وما في الأرض من كائنات مختلفة الأجناس والأنواع .. وأنه ـ سبحانه ـ ما يقع من تناجى ثلاثة فيما بينهم إلا وهو تعالى ـ يعلمه ، كأنه حاضر معهم ، ومشاهد لهم ، كما يعلمه الرابع حين يكون معهم في التناجي.
(وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) أى : ولا يكون التناجي بين خمسة إلا وهو ـ سبحانه ـ معهم ، يعلم ما يتناجون به كما يعلم ذلك سادسهم فيما لو كان التناجي بين ستة.
__________________
(١) سورة الكهف الآية ٤٩.
(٢) تفسير الآلوسى ج ٢٨ ص ٢٣.