وقوله ـ تعالى ـ (وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) بيان لشمول علمه لجميع الأحداث.
أى : ولا يقع التناجي بين ما هو أقل من ذلك العدد أو أكثر ـ كالاثنين والستة ـ إلا وهو ـ سبحانه ـ يعلم علما تاما ما يجرى بينهم في أى مكان كانوا ، وعلى أية حالة وجدوا.
(ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ) أى : ثم يخبرهم ـ سبحانه ـ يوم القيامة بما عملوه في الدنيا من أعمال كبيرة أو صغيرة ، ويجازيهم عليها بما يستحقونه من ثواب أو عقاب.
(إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فهو ـ سبحانه ـ لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
والمقصود بهذه الآية الكريمة ، بيان شمول علم الله ـ تعالى ـ لكل شيء ، وأنه ـ سبحانه ـ يحصى على الناس أعمالهم إحصاء الحاضر معهم ، المشاهد لهم ، الذي لا يعزب عنه شيء من حركاتهم أو سكناتهم ، ولذا افتتح ـ سبحانه ـ الآية بالعلم ، واختتمها بالعلم ـ أيضا ـ.
قال الإمام الرازي ما ملخصه : ذكر ـ سبحانه ـ الثلاثة والخمسة لوجوه : أحدها : أن هذه إشارة إلى كمال رحمته ، وذلك لأن الثلاثة إذا اجتمعوا ، فإذا أخذ اثنان في التناجي والمشاورة بقي الواحد ضائعا وحيدا ، فيضيق قلبه فيقول الله ـ تعالى ـ له : أنا جليسك وأنيسك.
وثانيها : أن العدد الفرد أشرف من الزوج ، لأن الله وتر يحب الوتر ، فخص الأعداد الفردية بالذكر للتنبيه على شرفها.
وثالثها : أن الآية نزلت في قوم من المنافقين ، اجتمعوا على التناجي مغايظة للمؤمنين ، وكانوا على هذين العددين : أى كانوا في مرة ثلاثة وفي مرة أخرى خمسة ـ فنزلت الآية الكريمة بيانا للواقع (١).
ويبدو لنا أن ذكر العدد إنما هو من باب التمثيل ، وأن المقصود الأصلى من الآية الكريمة ، بيان أن علم الله ـ تعالى ـ يشمل كل كبير وصغير ، وكثير وقليل ، ولذا قال ـ سبحانه ـ : (وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا).
قال القرطبي : قال الفراء : المعنى غير مقصود ، والعدد غير مقصود ، لأنه ـ تعالى ـ إنما قصد ـ وهو أعلم ـ أنه مع كل عدد قل أو كثر ، يعلم ما يقولون سرا وجهرا ، ولا تخفى عليه خافية ، فمن أجل ذلك اكتفى بذكر بعض العدد ، دون بعض .. (٢).
__________________
(١) راجع تفسير الفخر الرازي ج ٢٨ ص ٢٢٦.
(٢) تفسير القرطبي ج ١٧ ص ٢٩٠.