بدر ، وأن أهل بدر لم يكن لهم أن ينحازوا ، ولو انحازوا لانحازوا إلى المشركين ، إذ لم يكن في الأرض يومئذ مسلمون غيرهم ولا لهم فئة إلا النبي صلىاللهعليهوسلم ، فأما بعد ذلك فإن بعضهم فئة لبعض ، وبه قال أبو حنيفة. قالوا : ويؤيده قوله : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) فإنه إشارة إلى يوم بدر ؛ وقيل : إن هذه الآية منسوخة بآية الضعف. وذهب جمهور العلماء إلى أن هذه الآية محكمة عامة غير خاصة ، وأنّ الفرار من الزحف محرّم ، ويؤيد هذا : أن هذه الآية نزلت بعد انقضاء الحرب في يوم بدر. وأجيب عن قول الأوّلين : بأن الإشارة في (يَوْمَئِذٍ) إلى يوم بدر : بأن الإشارة إلى يوم الزحف كما يفيده السياق ، ولا منافاة بين هذه الآية وآية الضعف ، بل هذه الآية مقيدة بها ، فيكون الفرار من الزحف محرما بشرط ما بينه الله في آية الضعف ، ولا وجه لما ذكروه من أنه لم يكن في الأرض يوم بدر مسلمون غير من حضرها ، فقد كان في المدينة إذ ذاك خلق كثير لم يأمرهم النبي صلىاللهعليهوسلم بالخروج ، لأنه صلىاللهعليهوسلم ومن خرج معه لم يكونوا يرون في الابتداء أنه سيكون قتال. ويؤيد هذا ورود الأحاديث الصحيحة المصرحة بأن الفرار من الزحف من جملة الكبائر ، كما في حديث «اجتنبوا السّبع الموبقات ، وفيه : والتولّي يوم الزّحف» ونحوه من الأحاديث ، وهذا البحث تطول ذيوله وتتشعب طرقه ، وهو مبين في مواطنه. قال ابن عطية : والأدبار : جمع دبر ، والعبارة بالدبر في هذه الآية ، متمكنة في الفصاحة لما في ذلك من الشناعة على الفارّ والذمّ له ، قوله : (إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ) التحرف : الزوال عن جهة الاستواء ، والمراد به هنا : التحرّف من جانب إلى جانب في المعركة طلبا لمكايد الحرب وخدعا للعدوّ ، وكمن يوهم أنه منهزم ليتبعه العدوّ فيكرّ عليه ويتمكن منه ، ونحو ذلك من مكائد الحرب فإن الحرب خدعة. قوله : (أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) أي : إلى جماعة من المسلمين غير الجماعة المقابلة للعدوّ ، وانتصاب متحرّفا ومتحيزا على الاستثناء من المولين ، أي : ومن يولهم دبره إلا رجلا منهم متحرّفا أو متحيزا ، ويجوز انتصابهما على الحال ، ويكون حرف الاستثناء لغوا لا عمل له ، وجملة (فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) جزاء للشرط. والمعنى : من ينهزم ويفرّ من الزحف فقد رجع بغضب كائن من الله إلا المتحرّف والمتحيز (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ) أي : المكان الذي يأوي إليه هو النار : ففراره أوقعه إلى ما هو أشدّ بلاء مما فرّ منه وأعظم عقوبة. والمأوى : ما يأوي إليه الإنسان (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) ما صار إليه من عذاب النار. وقد اشتملت هذه الآية على هذا الوعيد الشديد لمن يفرّ عن الزحف ، وفي ذلك دلالة على أنه من الكبائر الموبقة. قوله : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) الفاء جواب شرط مقدّر ، أي : إذا عرفتم ما قصه الله عليكم من إمداده لكم بالملائكة ، وإيقاع الرعب في قلوبهم ، فلم تقتلوهم ولكنّ الله قتلهم ، بما يسره لكم من الأسباب الموجبة للنصر. قوله : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) اختلف المفسّرون في هذا الرمي على أقوال : فروي عن مالك أن المراد به : ما كان منه صلىاللهعليهوسلم في يوم حنين ، فإنه رمى المشركين بقبضة من حصباء الوادي فأصابت كل واحد منهم ؛ وقيل : المراد به : الرمية التي رمى رسول الله صلىاللهعليهوسلم أبيّ بن خلف بالحربة في عنقه فانهزم ومات منها ؛ وقيل : المراد به : السهم الذي رمى به رسول الله صلىاللهعليهوسلم في حصن خيبر ، فسار في الهواء حتى أصاب ابن أبي الحقيق وهو على فراشه ، وهذه الأقوال ضعيفة ، فإن الآية نزلت عقب وقعة بدر. وأيضا المشهور في كتب السير