ولكنا مع ذلك نعتبر ابن جرير ممن جمع بين النقل والعقل وان كان تفسيره من أهم مراجع التفسير النقلى ، الا أنه مع ذلك يعتبر مرجعا عظيم الأهمية من مراجع التفسير العقلي ، نظرا لما فيه من الاستنباط وتوجيه الأقوال ، واختيار أولاها بالصواب اختيارا يعتمد على صحة السند ، كما يعتمد على النظر العقلي والبحث الحر الدقيق ، فهو قد احتكم إلى المعروف من كلام العرب (٣٥) ، ورجع إلى الشعر القديم بشكل واسع ، متبعا فى هذا ما أثاره ابن عباس سابقا (٣٦) ، كما اهتم بالمذاهب النحوية (٣٧) والأحكام الفقهية (٣٨) وبعض مسائل علم الكلام (٣٩) فيمكن أن نعتبر تفسير ابن جرير من التفاسير التي جمعت بين النقل والعقل.
ونلاحظ ان المأثور عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم فى تفسير القرآن كان محدودا ، ثم كثر التفسير النقلى عن الصحابة والتابعين ، ثم نشأت طبقة جمعت المأثور من التفسير عن النبي وأصحابه وتابعيهم ، ومنهم من أضاف إلى التفسير رأيه واجتهاده ، ومنهم من جمع التفسير النقلى ثم فسر الآيات التي لم يرد فيها تفسير بالمأثور تفسيرا اجتهاديا عقليا ، معتمدا على ما عرف من لغة العرب وأساليبها ، وما ورد من التاريخ فى الأحداث التي حدثت فى عصر النبي صلىاللهعليهوسلم.
وقد وقف الناس فى ذلك موقفين وانقسموا فريقين. فقوم تشددوا فى التفسير فلم يروا أن يجرؤوا على تفسير شيء من القرآن ما لم يرد فيه قول للنبي أو للصحابة ، كالذي روى عن عبد الله بن عمر أنه قال : «لقد أدركت فقهاء المدينة وأنهم ليعظمون القول فى التفسير ، منهم سالم بن عبد الله ، والقاسم بن محمد ، وسعيد بن المسيب ، ونافع» (٤٠).
وقال الشعبي : «ثلاث لا أقول فيهن حتى أموت : القرآن ، والروح ، والرأى» (٤١).
ومن أمثلة ذلك الأصمعى ، فهو مع علمه الواسع باللغة كان شديد الاحتراز فى تفسير الكتاب والسنة ، فإذا سئل عن شيء منها قال : العرب تقول معنى هذا كذا ، ولا أعلم المراد منه فى الكتاب والسنة أى شيء هو (٤٢) وأمثال هؤلاء حملوا على المفسرين بالرأى ، ورووا حديث (من تكلم فى القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ).
__________________
(٣٥) انظر تفسيره للآية (٤٠) من سورة هود : ١٢ / ٢٥.
(٣٦) انظر تفسيره للآية (٢٢) من سورة البقرة : ١ / ١٢٥.
(٣٧) انظر تفسيره للآية (١١٨) من سورة ابراهيم : ١٣ / ١٣١.
(٣٨) انظر تفسيره للآية (٨) من سورة النحل : ١٤ / ٥٧ ـ ٥٨.
(٣٩) انظر تفسيره للآية (٧) آخر سورة الفاتحة ١ / ٦٤.
(٤٠) أحمد أمين : ضحى الإسلام : ٢ / ١٤٤ ط ٦.
(٤١) تفسير ابن جرير : ١ / ٢٩.
(٤٢) ابن خلكان : ١ / ٤٠٩.