فلا عجب ان كره الأوزاعي (٧٦) وجود مقاتل فى الشام ، وان أخرجه باسئلته حتى خرج منه.
وإذا كان مقاتل لم يوفق فى مكة ولا فى بيروت ـ فان حياته فى خراسان وفى العراق كانت احسن حالا ، ففي هذه البلاد ملل ونحل ، وآراء وأفكار ، فمن اليسير عليها قبول آراء مقاتل.
ولذلك قالوا : (من أراد المناسك فعليه باهل مكة ، ومن أراد مواقيت الصلاة فعليه باهل المدينة ، ومن أراد السير فعليه باهل الشام ، ومن أراد شيئا لا يعرف حقه من باطله فعليه باهل العراق) (٧٧) لقد اتسع العراق لكثير من الفرق والنحل فى القديم والحديث ، ففي ربوعه كان الشيعة معتدلوهم وغلاتهم ، وفيه كان المعتزلة والجهمية والقدرية والمرجئة وغيرهم.
بل كان العراق من قديم الزمن محلا للنزعات العقلية والمتضاربة.
ولقد قال ابن ابى الحديد فى شرح نهج البلاغة فى صدد بيان السبب فى منشإ الفرق الغالية من الشيعة فى العراق ما نصه : «ومما ينقدح لي فى الفرق بين هؤلاء القوم (الروافض) وبين الذين عاصروا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ان هؤلاء من العراق ، وساكني الكوفة ، وطينة العراق ما زالت تنبت ارباب الأهواء ، واصحاب النحل العجيبة ، والمذاهب البديعة ، واهل هذا الإقليم اهل بصر وتدقيق ونظر وبحث عن الآراء والعقائد وشبه معترضة المذاهب ، وقد كان منهم فى ايام الاكاسرة مثل مانى وديصان ومزدك ، وغيرهم ، وليست طينة الحجاز هذه الطينة ، ولا أذهان اهل الحجاز هذه الأذهان» (٧٨) «وترى ان العراق كان مزدحم الآراء فى المعتقدات ، فى الإسلام وفى القديم ، وذلك لأنه كان يسكنه منذ القدم عدة طوائف من نحل مختلفة ، والمذاهب التي نشأت به فى القديم يبدو فيها اختلاط العقائد المتضاربة ، فالديصانية والمانوية ليست الا مزجا لتنويه المجوس بالمبادئ النصرانية ، وهكذا ترى فيه مما ظهر من النحل المختلفة ، وفى استنباط ، عقيدة من عقيدتين او عدة عقائد» (٧٩)
__________________
(٧٦) الأوزاعي ـ هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ، عربي يمنى ولد سنة ٨٨ ببعلبك وذهب الى اليمامة وسمع من شيوخها ورحل الى مكة وأخذ العلم عن عطاء بن ابى رباح وابن شهاب الزهري ، ورحل الى البصرة وسمع من شيوخها ثم نزل دمشق ثم بيروت ومات بها سنة ١٥٧ ه. وقد التقى بمقاتل فى مسجد بيروت (ضحى الإسلام : ٢ / ٩٨ ، تاريخ بغداد : ١٣ / ١٦٦)
(٧٧) احمد أمين : ضحى الإسلام ٢ / ٨٤ ، الطبعة السادسة.
(٧٨) انظر محمد ابو زهرة : (ابو حنيفة) : ٨٢.
(٧٩) محمد ابو زهرة : (ابو حنيفة) : ٨٢ ـ ٨٣.