والله مبرئي ببراءتي ؛ ولكن والله ما كنت أظن أن الله ينزل في شأني وحيا يتلى لشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله تعالى فيّ بأمر ، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلىاللهعليهوسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها ، فو الله ما رام رسول الله صلىاللهعليهوسلم مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل الله تعالى على نبيه فأخذه ما كان يأخذه عند الوحي من البرحاء حتى أنه لينحدر منه العرق مثل الجمان في اليوم الشاتي من ثقل الذي أنزل عليه فسجي بثوب ، فو الله ما سرّي عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى ظننت أن نفس أبوي ستخرجان فرقا من أن يأتي الله بتحقيق ما قال الناس ، فلما سرى عنه وهو يضحك ، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال : أبشري يا عائشة قد برأك الله فكنت أشد ما كنت غضبا ، فقال لي أبواي : قومي إليه ، فقلت : والله لا أقوم إليه ولا أحمده ولا أحمدكما ولا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي ؛ لقد سمعتموه فما أنكرتموه ، ولا غيرتموه ، وأنزل الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ) العشر آيات كلها ، فقال أبو بكر : والله لا أنفق على مسطح بعد الذي قال لعائشة ما قال فأنزل الله : (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ) إلى قوله : (غَفُورٌ رَحِيمٌ ،) فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي ، فرجع النفقة إلى مسطح التي كان ينفقها عليه ، وقال : والله لا أنزعها منه أبدا ؛ قالت عائشة : وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يسأل زينب بنت جحش عن أمري فقال لزينب : ما علمت أو رأيت؟ فقالت : يا رسول الله أحمي سمعي وبصري والله ما علمت إلا خيرا ؛ قالت عائشة : وهي التي تساميني من أزواج النبي صلىاللهعليهوسلم فعصمها الله بالورع ؛ قالت عائشة : «والله إنّ الرجل الذي قيل له ما قيل ليقول سبحان الله ، فوالذي نفسي بيده ما كشفت كنف أنثى قط ، قالت : ثم قتل بعد ذلك في سبيل الله تعالى» ؛ قالت : ولما نزل عذري قام رسول الله صلىاللهعليهوسلم فذكر ذلك وتلا القرآن وضرب عبد الله بن أبيّ ومسطحا وحسان وحمنة الحدّ. قال عروة : وكانت عائشة تكره أن يسب عندها حسان وتقول : إنه الذي قال (١) :
فإنّ أبي ووالده وعرضي |
|
لعرض محمد منكم وقاء |
وقال الحافظ ابن عمر بن عبد البر في الاستيعاب وأنكر قوم أن يكون حسان خاض في الإفك وجلد فيه ، وروي عن عائشة أنها برأته من ذلك ، انتهى. وقال غيره : والله لا أظن به ذلك أصلا وإن جاءت تسميته في الصحيح فقد يخطىء الثقة لأسباب لا تحصى كما يعرف ذلك من مارس نقل الأخبار وكيف يظن به ذلك ولا شغل له إلا مدح النبي صلىاللهعليهوسلم والمدافعة عنه والذم لأعدائه ، وقد شهد النبي صلىاللهعليهوسلم أن جبريل معه وهو القائل يمدح عائشة ويكذب من نقل عنه ذلك (٢) :
حصان رزان ما تزن بريبة |
|
وتصبح غرثي من لحوم الغوافل |
حليلة خير الناس دينا ومنصبا |
|
نبي الهدى والمكرمات الفواضل |
عقيلة حي من لؤي بن غالب |
|
كرام المساعي مجدها غير زائل |
مهذبة قد طيب الله خيمها |
|
وطهرها من كل شين وباطل |
__________________
(١) البيت من الوافر ، وهو لحسان بن ثابت في ديوانه ص ٧٦ ، ولسان العرب (عرض) ، وأمالي المرتضى ١ / ٦٣٢ ، وتاج العروس (عرض).
(٢) الأبيات من الطويل ، وهي في ديوان حسان بن ثابت ص ٢٢٨.