للجمع بين الأمرين يعني التقبل الذي بمعنى التكفل والقبول الذي بمعنى الرضا (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) معناه وأنبتها فنبتت هي نباتا حسنا قال ابن عباس في قوله تعالى : (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ) أي سلك بها طريق السعداء : «وأنبتها نباتا حسنا» يعني سوى خلقها من غير زيادة ولا نقصان ، فكانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في عام (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) قال أهل الأخبار : لما ولدت حنة مريم أخذتها فلفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأخبار أبناء هارون وهم يومئذ يلون من بيت المقدس ما تلي الحجبة من الكعبة ، وقالت : دونكم النذيرة فتنافس فيها الأحبار لأنها بنت إمامهم وصاحب قربانهم قال زكريا : أنا أحق بها لأن خالتها عندي فقالت له الأحبار لو تركت لأحق الناس بها لتركت لأمها التي ولدتها ولكنا نفترع عليها فتكون عند من خرج سهمه بها ، فانطلقوا وكانوا تسعة وعشرين رجلا إلى نهر جار قيل : هو الأردن فألقوا أقلامهم في الماء على أن من ثبت قلمه في الماء وصعد فهو أولى بها من غيره وكان على كل قلم مكتوب اسم واحد منهم وقيل بل كانوا يكتبون التوراة فألقوا أقلامهم التي كانت بأيديهم فارتفع قلم زكريا فوق الماء ووقف وانحدرت أقلامهم ثم رسبت في النهر. وقيل جري قلم زكريا مصعدا إلى أعلى وجرت أقلامهم مع جري الماء إلى أسفل فسهمهم زكريا وقرعهم ، وكان زكريا رأس الأحبار ونبيهم فذلك قوله تعالى : وكفلها زكريا قرئ بتشديد الفاء ومعناه وضمنها الله زكريا وضمها إليه بالقرعة. وقرئ بتخفيف الفاء ومعناه ضمها زكريا إلى نفسه بالقرعة وقام بأمرها وهو زكريا بن أذن بن مسلم بن صدوق من أولاد سليمان بن داود عليهماالسلام ، فلما ضم زكريا مريم إلى نفسه بنى لها بيتا واسترضع لها المراضع وقيل : ضمها إلى خالتها أم يحيى حتى إذا شبت وبلغت مبلغ النساء بني لها محرابا في المسجد وجعل بابه في وسطه ولا يرقى إليه إلّا بسلم ولا يصعد إليها غيره. وكان يأتيها بطعامها وشرابها كل يوم فذلك قوله تعالى : (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ) يعني الغرفة والمحراب أشرف المجالس ومقدمها ، وكذلك هو من المسجد وقيل : المحراب ما يرقى إليه بدرج. وقيل كان زكريا يغلق عليها سبعة أبواب فإذا دخل عليها المحراب (وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) يعني فاكهة في غير وقتها فكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء (قالَ) يعني زكريا (يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا) أي من أين لك هذه الفاكهة (قالَتْ) يعني مريم مجيبة لزكريا (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) يعني من الجنة. وقيل : إن مريم من حين ولدت لم تلقم ثديا بل كان يأتيها رزقها من الجنة فيقول زكريا : يا مريم أنى لك هذا فتقول هو من عند الله تكلمت وهي صغيرة في المهد كما تكلم ولدها عيسى عليهالسلام وهو صغير في المهد. وقال محمد بن إسحاق : أصابت بني إسرائيل أزمة وهي على ذلك من حالها حتى ضعف زكريا عن حملها وكفالتها فخرج على بني إسرائيل فقال : يا بني إسرائيل تعلمون والله لقد كبرت سني وضعفت عن حمل بنت عمران فأيكم يكفلها بعدي : فقالوا : والله لقد جهدنا وأصابنا من السنة ما ترى فتدافعوها بينهم ثم لم يجدوا من حملها بدا فتقارعوا عليها بالأقلام فخرج السهم لرجل نجار يقال له يوسف بن يعقوب وكان وكان ابن عم لمريم فحملها فعرفت مريم في وجهه شدة ذلك عليه. فقالت : يا يوسف أحسن بالله الظّن فإن الله سيرزقنا ، فصار يوسف يرزق لمكانها منه فكان يأتيها كل يوم من كسبه بما يصلحها إذا أدخله عليها في المحراب أنماه الله وزاده فيدخل زكريا عليها فيقول : يا مريم أنى لك هذا فتقول : هو من عند الله (إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) وهذا يحتمل أن يكون من تمام كلام مريم أو ابتداء كلام من الله عزوجل ومعناه أن الله تعالى يرزق من يشاء بغير تقدير لكثرته أو من غير سبب ، وفي هذه الآية دليل على جواز كرامات الأولياء وظهور خوارق العادات على أيديهم قال أهل الأخبار : فلما رأى زكريا ذلك قال : إن الذي قدر على أن يأتي مريم بالفاكهة في غير وقتها وحينها من غير سبب لقادر أن يصلح زوجي ويهب لي ولدا في غير حينه مع الكبر وطمع في الولد. وذلك أن أهل بيته كانوا قد انقرضوا ، وكان زكريا قد كبر وشاخ وأيس من الولد فذلك قوله عزوجل :