(هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨))
(هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) يعني أنه عليهالسلام دخل محرابه وأغلق الأبواب وسأل ربه الولد (قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) يعني أنه قال : يا رب أعطني من عندك ولدا مباركا تقيا صالحا رضيا والذرية تطلق على الواحد والجمع والذكر والأنثى والمراد هنا الواحد وإنما قال طيبة لتأنيث لفظ الذرية (إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) أي سامعه ومجيبه. قوله عزوجل :
(فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩))
(فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) يعني جبريل عليهالسلام ، وإنما أخبر عنه بلفظ الجمع تعظيما لشأنه ولأنه رئيس الملائكة ، وقل أن يبعث إلّا ومعه جمع من الملائكة فجرى ذلك على مجرى العادة (وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ) أي في المسجد وذلك أن زكريا عليهالسلام كان الخبر الكبير الذي يقرب القربان ويفتح لهم الباب فلا يدخلون حتى يأذن لهم في الدخول ، فبينما هو قائم يصلي في محرابه عند المذبح والناس ينتظرون أن يأذن في الدخول إذا هو برجل شاب عليه ثياب بيض ففزع زكريا منه فناداه جبريل عليهالسلام يا زكريا (أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى) أي بولد اسمه يحيى قال ابن عباس : سمي يحيى لأن الله تعالى أحيا به عقر أمه وقيل : لأن الله تعالى أحيا قلبه بالإيمان وقيل لأن الله تعالى أحياه بالطاعة حتى لم يهم بمعصية قط (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) يعني عيسى ابن مريم وإنما سمي عيسى عليهالسلام كلمة لأن الله تعالى قال له : كن فكان من غير أب دلالة على كمال القدرة فوقع عليه اسم الكلمة لأنه بها كان. وقيل سمي كلمة لأن عيسى عليهالسلام كان يرشد الخلق إلى الحقائق والأسرار ويهتدى به كما يهتدى بكلام الله تعالى فسمي كلمة بهذا الاعتبار. وقيل سمي كلمة لأن الله تعالى بشر به مريم على لسان جبريل عليهالسلام : وقيل لأن الله تعالى أخبر الأنبياء الذين قبله في كتبه المنزّلة عليهم أنه يخلق نبيا من غير واسطة أب ، فلما جاء قيل : هذا هو تلك الكلمة يعني الوعد الذي وعد أنه يخلقه كذلك ، وكان يحيى أول من آمن بعيسى وصدقه ، وكان يحيى أكبر من عيسى بستة أشهر وكانا ابني خالة وقتل يحيى قبل أن يرفع عيسى عليهالسلام. وقيل : إن أم يحيى لقيت أم عيسى وهما حاملتان فقالت أم يحيى لأم عيسى : يا مريم أشعرت أني حامل فقالت مريم : وأنا أيضا حامل فقالت أم يحيى : يا مريم إني لأجد ما في بطني يسجد لما في بطنك فذلك قوله : مصدقا بكلمة من الله يعني أن يحيى آمن بعيسى وصدق به (وَسَيِّداً) من ساد يسود. والسيد هو الرئيس الذي يتبع وينتهي إلى قوله. وكان يحيى عليهالسلام سيد المؤمنين ورئيسهم في الدين والعلم والحلم. وقيل : السيد هو الحسن الخلق وقيل : هو الذي يطيع ربه وقيل : هو الفقيه العالم وقيل : سيدا في العلم والعبادة والورع وقال السيد هو الحليم الذي لا يغضبه شيء وقيل : السيد هو الذي يفوق في جميع خصال الخير. وقيل : هو السخي قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من سيدكم يا بني سلمة؟ قالوا : جد بن قيس على أنا نبخله قال وأي داء أدوأ من البخل لكن سيدكم عمرو بن الجموح» (وَحَصُوراً) قال ابن عباس وغيره من المفسرين : الحصور الذي لا يأتي النساء ولا يقربهن فعلى هذا هو فعول بمعنى فاعل يعني أنه حصر نفسه عن الشهوات وأصله من الحصر وهو الحبس : وقيل : هو العنين وقيل هو الفقير الذي لا مال له فيكون الحصور بمعنى المحصور يعني الممنوع من النساء. قال سعيد بن المسيب : كان له مثل هدبة الثوب وقد تزوج مع ذلك ليغض بصره وفيه قول آخر : وهو أن الحصور هو الممتنع عن الوطء مع القدرة عليه ، وإنما تركه للعفة والزهد فيه وهذا القول هو الصحيح وهو قول جماعة من المحققين وهو أليق بمنصب الأنبياء لأن الكلام إنما خرج مخرج المدح والثناء وذكر صفة النقص في معرض المدح لا يجوز ، وأيضا فإن منصب النبوة يجل من أن يضاف إلى أحد منهم نقص أو آفة ، فحمل