الكلام على منع النفس من الوطء مع القدرة عليه أولى من حمله على ترك الوطء مع العجز عنه (وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) يعني أنه من أولاد الأنبياء الصالحين. قوله عزوجل :
(قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠))
(قالَ) يعني زكريا (رَبِ) أي يا رب قيل خطاب مع جبريل لأن الآية المتقدمة دلت على أن الذين نادوهم الملائكة فعلى هذا القول يكون الرب هنا بمعنى السيد والمربي أي يا سيدي ، وقيل : إنه خطاب مع الله تعالى فيكون الرب بمعنى المالك ، وذلك أن الملائكة لما بشروه بالولد تعجب ورجع في إزالة ذلك التعجب إلى الله تعالى فقال رب (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) يعني من أين يكون وكيف يكون لي غلام (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) قيل : هو من المقلوب ومعناه وقد بلغت الكبر وشخت. وقيل : معناه وقد نالني الكبر وأدركني الضعف. فإن قلت كيف أنكر زكريا الولد مع تبشير الملائكة إياه به وما معنى هذه المراجعة ، ولم تعجب من ذلك بعد وعد الله إياه به أكان شاكا في وعد الله أو في قدرته؟ قلت : لم يشك زكريا عليهالسلام في وعد الله وفي قدرته إنما قال ذلك على سبيل الاستفهام والاستعلام والمعنى من أي جهة يكون لي الولد أيكون بإزالة العقر عن زوجتي ورد شبابي علي؟ أو يكون ونحن على حالنا من الكبر والضعف؟ فأجابه بقوله (كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) وقال عكرمة والسدي : لما سمع زكريا نداء الملائكة جاءه الشيطان وقال : يا زكريا إن الصوت الذي سمعت ليس هو من الله تعالى ، وإنما هو من الشيطان ، ولو كان من الله تعالى لأوحاه إليك كما يوحي إليك في سائر الأمور : فقال ذلك زكريا دفعا للوسوسة واعترض على الجواب بأنه لا يجوز أن يشتبه على الأنبياء كلام الملائكة بكلام الشيطان ، إذ لو جوزنا ذلك لارتفع الوثوق بأخبارهم عن الوحي السماوي ، وأجيب عن هذا الاعتراض بأنه لما دلت الدلائل على صدق الأنبياء فيم يخبرون به عن الله تعالى بواسطة الملك ، فلا مدخل للشيطان فيه وذلك فيما يتعلق بالدين والشرائع ، فأما ما يتعلق بمصالح الدنيا وبالولد فقد يحتمل فيه حصول الوسوسة فسأل زكريا ذلك لنزول هذه الوسوسة من خاطره. قال الكلبي : كان زكريا يوم بشر بالولد ابن اثنين وتسعين سنة. وقيل : ابن تسع وتسعين سنة وقال ابن عباس في رواية الضحاك : كان ابن مائة وعشرين سنة وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة فذلك قوله تعالى : (وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) أي عقيم لا تلد (قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) يعني أنه تعالى قادر على هبة الولد على الكبر يفعل ما يشاء لا يعجزه شيء. قوله عزوجل :
(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١) وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢))
(قالَ) يعني زكريا يا (رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) أي علامة أعلم بها وقت حمل امرأتي فأزيد في العبادة والشكر لك (قالَ آيَتُكَ) أي علامتك على الذي طلبت معرفة علمه (أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) أي لا تقدر على تكليم الناس (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) أي مدة ثلاثة أيام بلياليها. قال جمهور المفسرين : عقد لسانه عن تكليم الناس ثلاثة أيام مع إبقائه على قدرة التسبيح والذكر ولذلك قال في آخر الآية (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) يعني في أيام منعك من تكليم الناس وهذه من الآيات الباهرة والمعجزات الظاهرة لأن قدرته على التسبيح والذكر مع عجزه عن تكليم الناس بأمور الدنيا. وذلك مع صحة الجسم وسلامة الجوارح من أعظم المعجزات ، وإنما منع من الكلام مع الناس ليخلص في هذه الأيام لعبادة الله تعالى وذكره ولا يشغل لسانه بشيء آخر توقيرا منه على قضاء حق هذه النعمة الجسيمة وشكرا لله على إجابته فيما طلب الآية من أجله ، وأن يكون ذلك دليلا على وجود الحمل ليتم