مع عبد الله بن جبير لما انهزم المشركون قال بعضهم لبعض أي قوم ما نصنع بمقامنا هاهنا وقد انهزم المشركون ثم أقبلوا على الغنيمة ، وقال بعضهم لبعض لا تجاوزوا أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم وثبت عبد الله بن جبير أمير القوم في نفر يسير دون العشرة ممن كان معه فلما رأى خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل ذلك حملوا على الرماة الذين ثبتوا مع عبد الله بن جبير وأصحابه وأقبلوا على المسلمين وتحولت الريح دبورا بعد ما كانت صبا ، وانقضت صفوف المسلمين واختلطوا فجعلوا يقتلون على غير شعار يضرب بعضهم بعضا وما يشعرون بذلك من الدهش ونادى إبليس أن محمدا قد قتل فكان ذلك سبب هزيمة المسلمين وقوله : وعصيتم يعني أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم فيما أمركم به من لزوم المركز (مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ) من النصر والظفر والغنيمة يا معشر المسلمين (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا) يعني الذين تركوا المركز وأقبلوا على النهب (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) يعني الذين ثبتوا مع أميرهم عبد الله بن جبير حتى قتلوا قاله عبد الله بن مسعود ما شعرت أن أحدا من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم يريد الدنيا حتى كان يوم أحد نزلت هذه الآية (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) يعني يا معشر المسلمين يعني عن المشركين بالهزيمة (لِيَبْتَلِيَكُمْ) يعني ليمتحنكم وقيل لينزل عليكم البلاء لتتوبوا إليه وتستغفروه وقيل معناه ليختبركم وهو أعلم ليتميز المؤمن من المنافق ومن يريد الدنيا ممن يريد الآخرة (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) يعني ولقد عفا الله عنكم أيها المخالفون أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم فلم يستأصلكم بعد المخالفة والمعصية وقيل : عفا عن عقوبتكم أيها المخالفون (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) وهذا من تمام نعمه على عباده المؤمنين لأنه نصرهم أولا ثم عفا عن المذنبين منهم ثانيا لأنه ذو الفضل والطول والإحسان. وفي الآية دليل على أن صاحب الكبيرة مؤمن وأن الله تعالى يعفو عنه بفضله وكرمه إن شاء لأنه سماهم مؤمنين مع ما ارتكبوه من مخالفة أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهي كبيرة وعفا عنهم بعد ذلك. قوله عزوجل :
(إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣))
(إِذْ تُصْعِدُونَ) قيل هو متعلق بما قبله والتقدير ولقد عفا عنكم إذ تصعدون لأن عفوه عنهم لا بد وأن يتعلق بأمر اقترفوه وذلك الأمر هو ما بينه بقوله إذ تصعدون يعني هاربين في الجبل. وقيل هو ابتداء كلام لا تعلق له بما قبله والمعنى اذكروا إذ تصعدون قراءة الجمهور بضم التاء وكسر العين من الإصعاد وهو الذهاب في الأرض والإبعاد فيها وقرأ الحسن تصعدون بفتح التاء من الصعود وهو الارتقاء من أسفل إلى أعلى كالصعود على الجبل وعلى السلم ونحوه ، وللمفسرين في معنى الآية قولان أحدهما أنه صعودهم في الجبل عند الهزيمة والثاني أنه الإبعاد في الأرض في حال الهزيمة ووقت الهرب (وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ) أي لا تعرجون ولا تقيمون على أحد ولا يلتفت بعضكم إلى بعض من شدة الهرب (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) أي في آخركم ومن ورائكم يقول إليّ عباد الله أنا رسول الله من كرّ أي رجع فله الجنة (فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍ) يعني فجزاكم بفراركم عن نبيكم صلىاللهعليهوسلم وفشلكم عن عدوكم غما بغم فسمّى العقوبة التي عاقبهم بها ثوابا على سبيل المجاز لأن لفظ الثواب لا يستعمل في الأغلب إلّا في الخير وقد يجوز استعماله في الشر لأنه مأخوذ من ثاب إذا رجع فأصل الثواب كل ما يعود إلى الفاعل من جزاء فعله سواء كان خيرا أو شرا فمتى حملنا الثواب على أصل اللغة كان الكلام صحيحا ومتى حملناه على الأغلب كان على سبيل المجاز فهو كقول الشاعر :
أخاف زيادا أن يكون عطاؤه |
|
أداهم سودا أو محدرجة سمرا |
فجعل العطاء مكان العقاب لأن الأداهم السود هي القيود الثقال والمحدرجة هي السياط والباء في قوله غما