لْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) يعني باقين فيها (أَبَداً) يعني ذلك الخلود بغير نهاية ولا انقطاع (لَهُمْ فِيها) يعني في الجنات (أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) يعني مطهرات من الحيض والنفاس وسائر أقذار الدنيا (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً) كنينا ذلك الظل لا تنسخه الشمس ولا يؤذيهم فيه حر ولا برد وذلك الظل هو ظل الجنة. فإن قلت إذا لم يكن في الجنة شمس يؤذي حرها فما فائدة وصفها بالظل الظليل؟ قلت إنما خاطبهم بما يعقلون ويعرفون وذلك لأن بلاد العرب في غاية الحرارة فكان الظل عندهم من أعظم أسباب الراحة واللذة فهو كقوله ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا.
قوله عزوجل : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) قال البغوي نزلت في عثمان بن طلحة الحجبي من بني عبد الدار وكان سادن الكعبة فلما دخل النبي صلىاللهعليهوسلم مكة يوم الفتح أغلق عثمان باب البيت وصعد السطح فطلب رسول الله صلىاللهعليهوسلم المفتاح فقيل له : إنه مع عثمان فطلب منه رسول الله المفتاح فأبى وقال لو علمت إنه رسول الله لم أمنعه المفتاح فلوى علي بن أبي طالب يده وأخذ منه المفتاح وفتح الباب ودخل رسول الله صلىاللهعليهوسلم البيت وصلى فيه ركعتين فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح وأن يجمع له بين السقاية والسدانة فأنزل الله هذه الآية فأمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم عليا أن يرد المفتاح إلى عثمان ويعتذر إليه ففعل ذلك فقال له عثمان : أكرهت ثم جئت ترفق فقال علي لقد أنزل الله عزوجل في شأنك قرآنا وقرأ عليه الآية فقال عثمان : أشهد أن لا إله إلّا الله وأن محمدا رسول الله فأسلم فكان المفتاح معه إلى أن مات فدفعه إلى أخيه شيبة فالمفتاح والسدانة في أولادهم إلى يوم القيامة. قلت وفيما ذكره البغوي رحمهالله من إسلام عثمان بن طلحة يوم الفتح ومنعه المفتاح وقوله لو أعلم أنه رسول الله لم أمنعه المفتاح نظر والصحيح ما حكاه أبو عمر بن عبد البر وابن مندة وابن الأثير أن عثمان بن طلحة هاجر إلى المدينة في هدنة الحديبية سنة ثمان مع خالد بن الوليد ولقيهما عمرو بن العاص مقبلا من عند النجاشي فرافقهما وهاجر معهما فلما رآهم النبي صلىاللهعليهوسلم : قال رمتكم مكة بأفلاذ كبدها يعني أنهم وجوه أهل مكة فأسلموا وسلم عثمان بن طلحة المفتاح للنبي صلىاللهعليهوسلم يوم الفتح فرده النبي صلىاللهعليهوسلم إليه وقال خذوها يا بني طلحة خالدة مخلدة لا ينزعها منكم إلّا ظالم ولم يذكروا سؤال العباس السدانة والله أعلم. وثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أقبل النبي صلىاللهعليهوسلم عام الفتح وهو مردف أسامة على القصواء ومعه بلال وعثمان حتى أناخ عند البيت ثم قال لعثمان ائتنا بالمفتاح فجاءه بالمفتاح ففتح الباب. وذكر الحديث وذكر ابن الجوزي في تفسير هذه الآية من رواية أبي صالح عن ابن عباس قال : إن النبي صلىاللهعليهوسلم لما فتح مكة طلب مفتاح البيت من عثمان بن طلحة فذهب ليعطيه إياه فقال العباس بأبي أنت وأمي اجمعه إلي مع السقاية فكف عثمان يده مخافة أن يعطيه العباس فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : هات المفتاح فأعاد العباس قوله وكف عثمان يده فقال النبي صلىاللهعليهوسلم هات المفتاح أن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فقال هاكه يا رسول الله بأمانة الله فأخذ المفتاح الباب ونزل جبريل بهذه الآية فدعا عثمان ودفعه إليه ففي هذه الرواية أيضا ما يدل على تقدم إسلام عثمان بن طلحة على فتح مكة. لأن قوله صلىاللهعليهوسلم لعثمان إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر يدل على ذلك فعلى هذا القول يكون الخطاب في قوله إن الله يأمركم للنبي صلىاللهعليهوسلم وهو أن الله أمره أن يرد مفتاح البيت إلى عثمان بن طلحة. وقيل الخطاب في قوله إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها لولاة أمور المسلمين من الأمراء والحكام وغيرهم ويدل على ذلك سياق الآية وهو قوله وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ومعنى الآية إن الله يأمركم يا ولاة الأمور أن تؤدوا ما ائتمنتم عليه من أمور رعيتكم وأن توفوهم حقوقهم وأن تعدلوا بينهم. وقيل إن الآية عامة في جميع الأمانات ولا يمتنع من خصوص السبت عموم الحكم فيدخل في ذلك جميع الأمانات التي حملها الإنسان ويقسم ذلك إلى ثلاثة أقسام : القسم الأول رعاية الأمانة في عبادة الله عزوجل وهو فعل المأمورات وترك المنهيات قال ابن مسعود الأمانة لازمة في كل شيء حتى في الوضوء والغسل من الجنابة والصلاة والزكاة والصوم وسائر أنواع العبادات. القسم الثاني هو رعاية الأمانة مع