حق الكفار الذين نزلت الآية فيهم ، فأما من أجرى حكم الآية على المحاربين من المسلمين فينفي العذاب العظيم عنهم في الآخرة لأن المسلم إذا عوقب بجناية في الدنيا كانت عقوبته كفارة له وإن لم يعاقب في الدنيا فهو في خطر المشيئة ، إن شاء عذبه بجنايته ثم يدخله الجنة ، وإن شاء عفا عنه وأدخله الجنة هذا مذهب أهل السنة.
(إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤))
وقوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) يعني لكن الذين تابوا من شركهم وحربهم لله ورسوله ومن السعي في الأرض بالفساد من قبل أن تقدروا عليهم. يعني فلا سبيل لكم عليهم بشيء من العقوبات المذكورة في الآية المتقدمة (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ) يعني لمن تاب من الشرك (رَحِيمٌ) يعني به إذا رجع عما يسخط الله عزوجل وهذا قول معظم أهل التفسير أن المراد بهذا الاستثناء المشرك المحارب إذا آمن وأصلح قبل القدرة عليه سقط عنه جميع الحدود التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية وأنه لا يطالب بشيء مما أصاب من مال أو دم. قال أبو إسحاق : جعل الله التوبة للكفار تدرأ عنهم الحدود التي وجبت عليهم في كفرهم ليكون ذلك داعيا لهم إلى الدخول في الإسلام ، فهذا حكم المشرك المحارب إذا آمن وأصلح وكذلك لو آمن بعد القدرة عليه لم يطالب بشيء بالإجماع ، وأما المسلم المحارب ، إذا تاب واستأمن قبل القدرة عليه. فقال السدي : هو الكافر إذا آمن لم يطالب بشيء إلا إذا أصيب عنده مال بعينه فإنه يرده على أهله وهذا مذهب مالك والأوزاعي غير أن مالك قال يؤخذ بالدم إذا طلب به وليه ، فأما ما أصاب من الدماء والأموال ولم يطلبها أولياؤها فلا يتبعه الإمام بشيء من ذلك وهذا حكم علي بن أبي طالب في حارثة بن زيد وكان قد خرج محاربا فتاب قبل أن يقدر عليه فآمنه علي على نفسه وكذلك جاء رجل من مراد إلى أبي موسى الأشعري وهو على الكوفة في خلافة عثمان بعد ما صلى المكتوبة ، فقال : يا أبا موسى هذا مقام العائذ بك أنا فلان بن فلان المرادي كنت قد حاربت الله ورسوله وسعيت في الأرض بالفساد وإني قد تبت من قبل أن يقدر عليّ. فقام أبو موسى فقال : هذا فلان المرادي وأنه كان حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا وأنه قد تاب من قبل أن يقدر عليه فلا يتعرض له أحد إلا بخير. وقال الشافعي : يسقط عنه بتوبته قبل القدرة عليه حد الله ولا يسقط عنه بها ما كان من حقوق بني آدم من قصاص أو مظلمة من مال أو غيره وأما إذا تاب بعد القدرة عليه فظاهر الآية أن التوبة لا تنفعه وتقام عليه الحدود وقال الشافعي : ويحتمل أن يسقط كل حد لله عزوجل بالتوبة.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٧) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨))
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) أي خافوا الله بترك المنهيات (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) يعني واطلبوا إليه القرب بطاعته والعمل بما يرضي وإنما قلنا ذلك ، لأن مجامع التكاليف محصورة في نوعين لا ثالث لهما. أحد النوعين : ترك المنهيات وإليه الإشارة بقوله : اتقوا الله. والثاني : التقرب إلى الله تعالى بالطاعات وإليه الإشارة بقوله : وابتغوا إليه الوسيلة والوسيلة فعيلة من وسل إليه إذا تقرب ومنه قول الشاعر :
إن الرجال لهم إليك وسيلة