(قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) ولم يرد به كل النصارى فإن معظم النصارى في عداوة المسلمين كاليهود بل الآية نزلت فيمن آمن من النصارى مثل النجاشي وأصحابه. والقس والقسيس : اسم رئيس النصارى والجمع قسيسون. وقال قطرب : القس والقسيس العالم بلغة الروم. وهذا مما وقع الوفاق بين اللغتين يعني العربية والرومية. وأما الرهبان ، فهو جمع راهب. وقيل : الرهبان واحد وجمعه رهابين وهم سكان الصوامع.
فإن قلت : كيف مدحهم الله بذلك مع قوله (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) قلت : إنما مدحهم الله في مقابلة ذم اليهود ووصفهم بشدة العداوة للمؤمنين ولا يلزم من هذا القدر أن يكون مدحا على الإطلاق. وقيل : إنما مدح من آمن منهم بمحمد صلىاللهعليهوسلم فوصفهم بالتمسك بدين عيسى إلى أن بعث رسول الله صلىاللهعليهوسلم فآمنوا به واتبعوه فإن قلت : كفر النصارى أشد وأغلظ من كفر اليهود وأقبح فإن النصارى ينازعون في الإلهيات فيدعون أن لله ولدا واليهود ينازعون في النبوات فيقرون ببعض النبيين وينكرون بعضهم والأول أقبح فلم ذم اليهود ومدح النصارى؟ قلت : إنما هو مدح في مقابلة ذم وليس بمدح على الإطلاق وقد تقدم الفرق بين شدة عداوة اليهود ولين النصارى فلذلك ذم اليهود ومدح النصارى الذين آمنوا منهم. واختلف العلماء في من نزلت هذه الآية فقيل نزلت في النجاشي ملك الحبشة واسمه أصحمة وأصحابه الذين أسلموا معه.
(ذكر قصة الهجرة الأولى وسبب نزول هذه)
قال ابن عباس وغيره من المفسرين في قوله (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) : إن قريشا ائتمرت أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم فوثبت كل قبيلة على من آمن منهم فأذوهم وعذبوهم فافتتن من افتتن منهم وعصم الله من شاء منهم ومنع الله رسوله محمدا صلىاللهعليهوسلم بعمه أبي طالب ، فلما رأى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ما نزل بأصحابه ولم يقدر أن يمنعهم من المشركين ولم يؤمر بعد بالجهاد ، أمر أصحابه بالخروج إلى أرض الحبشة ، وقال : إن بها ملكا صالحا لا يظلم ولا يظلم عنده أحد فاخرجوا إليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجا فخرج إليها أحد عشر رجلا وأربع نسوة سرا وهم : عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، والزبير بن العوام وعبد الله بن مسعود ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأبو حذيفة بن عقبة وامرأته سهلة بنت سهل بن عمرو ، ومصعب بن عمير ، وأبو سلمة بن عبد الأسد وزوجته أم سلمة بنت أمية ، وعثمان بن مظعون وعامر بن ربيعة وامرأته ليلى بنت أبي خيثمة ، وحاطب بن عمرو وسهيل بن بيضاء ، فخرجوا إلى البحر وأخذوا سفينة بنصف دينار إلى أرض الحبشة وذلك في رجب في السنة الخامسة من مبعث النبي صلىاللهعليهوسلم ، وهذه الهجرة الأولى. ثم خرج بعدهم جعفر بن أبي طالب وتتابع المسلمون فكان جميع من هاجر إلى أرض الحبشة من المسلمين اثنين وثمانين رجلا سوى النساء والصبيان ، فلما علمت قريش بذلك وجهوا عمرو بن العاص وجماعة بهدايا إلى النجاشي وبطارقته ليردهم إليهم ، فدخل إليه عمرو وقال له : أيها الملك إنه قد خرج فينا رجل سفّه عقول قريش وأحلامها وزعم أنه نبي وأنه قد بعث إليك برهط من أصحابه ليفسدوا عليك قومك فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم وأن قومهم يسألونك أن تردهم إليهم. فقال : حتى نسألهم فأمر بهم فأحضروا فلما أتوا باب النجاشي قالوا : يستأذن أولياء الله. فقال : ائذنوا لهم فمرحبا بأولياء الله. فلما دخلوا عليه سلموا ، فقال الرهط من المشركين : أيها الملك ألا ترى أنا قد صدقناك إنهم لم يحيوك بتحيتك التي تحيا بها؟ فقال لهم الملك : ما منعكم أن تحيوني بتحيتي؟ فقالوا له : إنا حييناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة. فقال لهم النجاشي : ما يقول صاحبكم في عيسى وأمه؟ فقال جعفر بن أبي طالب : يقول هو عبد الله ورسوله وكلمة الله وروح منه ألقاها إلى مريم العذراء ، ويقول في مريم إنها العذراء البتول. قال : فأخذ النجاشي عودا من الأرض وقال : والله ما زال صاحبكم على ما قال عيسى قدر هذا العود. فكره المشركون قوله وتغيرت وجوههم. فقال : هل تعرفون شيئا مما أنزل على صاحبكم؟ قالوا : نعم. قال : اقرءوا ، فقرأ جعفر سورة مريم وهنالك قسيسون ورهبان وسائر النصارى فعرفوا ما قرأ فانحدرت دموعهم مما