قوله عزوجل : (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ) يعني : وإذا سمعوا القرآن الذي أنزل إلى الرسول محمد صلىاللهعليهوسلم (تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) يقال : فاض الإناء إذا امتلأ حتى يخرج منه ما فيه. وصفهم الله تعالى بسيل الدمع عند البكاء ورقة القلب عن سماع القرآن. قال ابن عباس : يريد النجاشي وأصحابه لما قرأ عليهم جعفر بن أبي طالب سورة مريم. قال : فما زالوا يبكون حتى فرغ جعفر من القراءة (مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ) يعني الذي نزل على محمد صلىاللهعليهوسلم وهو الحق (يَقُولُونَ) يعني القسيسين والرهبان الذين سمعوا القرآن من جعفر عند النجاشي (رَبَّنا آمَنَّا) يعني بالقرآن وشهدنا أنه حق وصدق (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) يعني مع أمة محمد صلىاللهعليهوسلم الذين يشهدون بالحق (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِ) قال ابن عباس : لما رجع الوفد من عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم لامهم قومهم على ترك دينهم. وقيل : إن اليهود عيروهم وقالوا تركتم دينكم فأجابوا بهذا الجواب. ومعنى الآية : ومالنا لا نؤمن بوحدانية الله وما جاءنا من الحق من عنده على لسان رسول الله صلىاللهعليهوسلم (وَنَطْمَعُ) يعني : ونرجو بذلك الإيمان (أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) يعني مع أمة محمد صلىاللهعليهوسلم قوله تعالى : (فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا) يعني بالتوحيد الذي قالوه وإنما علق الثواب وهو قوله تعالى : (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) بمجرد القول لأنه قد سبق وصفهم بما يدل على إخلاصهم فيما قالوا وهو المعرفة والبكاء المؤذنان بحقيقة الإخلاص واستكانة القلب،لأن القول إذا اقترن بالمعرفة ، فهو الإيمان الحقيقي الموعود عليه بالثواب. وقال ابن عباس : بما قالوا يريد سألوا يعني قولهم فاكتبنا مع الشاهدين (خالِدِينَ فِيها) يعني في الجنات (وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ)يعني المؤمنين الموحدين المخلصين في إيمانهم (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) لما ذكر الله عزوجل الوعد لمؤمني أهل الكتاب وما أعدلهم من الجنات ذكر الوعيد لمن أقام منهم على كفره وتكذيبه وأطلق القول بذلك ليكون هذا الوعيد لهم ولمن جرى مجراهم في الكفر والتكذيب فقال والذين كفروا وكذبوا بآياتنا (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) قال علماء التفسير : إن النبي صلىاللهعليهوسلم ذكر الناس يوما ووصف القيامة فرقّ الناس وبكوا ، فاجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون الجمحي وهم : أبو بكر،وعلي بن أبي طالب،وعبد الله بن مسعود،وعبد الله بن عمر،وأبو ذر الغفاري،وسالم مولى أبي حذيفة ، والمقداد بن الأسود ، وسلمان الفارسي،ومعقل بن مقرن ، وتشاوروا واتفقوا على أنهم يترهبون ويلبسون المسوح ويجبون مذاكيرهم ويصومون الدهر ويقومون الليل ولا ينامون على الفرش ولا يأكلون اللحم والودك ولا يقربون النساء ولا الطيب ويسيحون في الأرض. فبلغ ذلك النبي صلىاللهعليهوسلم ، فأتى دار عثمان بن مظعون فلم يصادفه ، فقال لامرأته : أحق ما بلغني عن زوجك وأصحابه؟ فكرهت أن تكذب وكرهت أن تبدي سر زوجها ، فقالت : يا رسول الله إن كان قد أخبرك عثمان فقد صدق. فانصرف رسول الله صلىاللهعليهوسلم فلما جاء عثمان أخبرته بذلك فأتى هو وأصحابه العشرة إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم : فقال لهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم «ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا وكذا فقالوا بلى يا رسول الله وما أردنا إلا الخير فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم إني لم أؤمر بذلك ، ثم قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم والدسم وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ثم جمع الناس وخطبهم فقال : ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب وشهوات الدنيا فإني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا فإنه ليس في ديني ترك اللحم والنساء ولا اتخاذ الصوامع وإن سياحة أمتي الصوم ورهبانيتهم الجهاد ، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وحجوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان واستقيموا يستقم لكم فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الديار والصوامع فأنزل الله عزوجل هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) يعني الطيبات اللذيذات التي تشتهيها الأنفس وتميل إليها القلوب من المطاعم الطيبة والمشارب اللذيذة فأعلم الله عزوجل بهذه الآية أن شريعة نبيه صلىاللهعليهوسلم غير ما عزموا عليه من ترك الطيبات وأنه لا ينبغي أن تجتنب