(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧))
قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) نزل نهيا لجماعة من الصحابة ، اجتمعوا في بيت عثمان بن مظعون فتواثقوا وعاهدوا أن يترهبوا برفض الدنيا ويلبسوا المسوح ويقوموا الليل ويصوموا النهار ويخصوا أنفسهم لئلا يقربوا النساء والفرش (١) ، وحلفوا أن لا يأكلوا لحما ودسما ، وذلك حين وصف لهم رسول الله عليهالسلام القيامة وأحوالها وأشبع الكلام في الإنذار ، فبلغ ذلك رسول الله ، فقال إني لم أومر بذلك (٢) ، فنهاهم الله تعالى وقال يا أيها المؤمنون بالله ورسوله لا تحرموا على أنفسكم ما طاب ولذ مما أحل الله تناوله لكم (وَلا تَعْتَدُوا) أي لا تتجاوزوا (٣) الحلال إلى الحرام (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [٨٧] من الحلال إلى الحرام وعكسه.
(وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨))
(وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) حال كونه (حَلالاً طَيِّباً) من الطعام والشراب وإتيان النساء مستنين (٤) بسنن نبيكم ، فانه أكل الدجاج والفالوذ والعسل والدهن واللحم ، وكان يأتي بالنساء ، وأكد ذكل بقوله (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) [٨٨] أي مصدقون بأوامره ونواهيه ، فأحلوا حلاله وحرموا حرامه.
(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩))
ثم أمرهم بتكفير أيمانهم ، لأنهم لما حرموا الحلال على أنفسهم صار ذلك يمينا ، ففيه دليل على أن الرجل إذا حلف على شيء والحنث خير له ينبغي أن يحنث وكفر عن يمينه ، وفيه دليل على أن الكفارة بعد الحنث ، لأنه تعالى أمرهم بالحنث ، أي بأن يأكلوا ، ثم أمرهم بالكفارة بقوله (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) محله نصب على الحال ، أي كائنا فيها ، واللغو : أن يحلف الرجل على شيء وهو يرى أنه كذلك وليس كما يرى في الواقع ، هذا عند أبي حنيفة رحمهالله ، وقال الشافعي اللغو : ما لا يعقد الرجل قلبه عليه كقول الرجل لا والله وبلى والله في كل شيء ولم يعقد قلبه على اليمين باللفظ والعزم عليها ، فلا يؤاخذكم الله بتركه (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) مخففا ومشددا وبالأف قبل القاف (٥) ، أي حلفتم على شيء من فعل أو ترك إذا حنثتم فيها ، يعني أن الرجل إذا حلف على شيء يفعله (٦) ولم يفعله أو لا يفعله ففعله يؤاخذ به ويسمى (٧) عقد اليمين وهو توثيقها باللفظ مع العزم عليها (فَكَفَّارَتُهُ) أي ستر الحنث ، الفاء في جواب «إذا حنثتم» المحذوف بدلالة الكفارة عليه (إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ) لكل مسكين عند أبي حنيفة رضي الله عنه نصف صاع من بر أو صاع من غيره (٨) أو يغديهم ويعشيهم ، وعند الشافعي رحمهالله لكل مسكين مد من غالب قوت بلده ، وهو رطل وثلث رطل بالعراقي ، وجاز صرف الكل إلى مسكين واحد مسلما كان أو ذميا ، حرا كان أو عبدا في عشرة أيام عند أبي حنيفة ، ولم يجزه الشافعي إلا إلى حر مسلم في عشرة أيام ، ومنعا صرف الزكوة إلى أهل الذمة ، ولما كان في الناس من يسرف في النفقة على أهله قال (مِنْ أَوْسَطِ) أي أعدل (ما تُطْعِمُونَ) منه (أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ) عطف
__________________
(١) الفرش ، ب م : الفراش ، س ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٢ / ٤٤.
(٢) اختصره المصنف من السمرقندي ، ١ / ٤٥٥ ؛ والكشاف ، ٢ / ٤٤ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ١٧٢ ـ ١٧٣ ؛ والبغوي ، ٢ / ٢٩٢.
(٣) لا تتجاوزوا ، ب س : لا يتجاوزوا ، م.
(٤) مستنين ، ب س : مسننين ، م.
(٥) «عقدتم» : قرأ ابن ذكوان باثبات ألف بعد العين وتخفيف القاف وشعبة والأخوان وخلف بحذف الألف وتخفيف القاف ، والباقون بالحذف وتشديد القاف. البدور الزاهرة ، ٩٦.
(٦) يفعله ، ب س : بفعله ، م ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٤٥٦.
(٧) ويسمى ، ب س : وسمي ، م.
(٨) صاع من بر أو صاع من غيره ، م : صاع برا أو صاع من غيره ، س ، صاع برا وصاع من غيره ، ب.