__________________
ـ واعلم أن حيرة أهل الكشف والشهود أعظم من حيرة أصحاب النظر في الأدلة ؛ لاختلاف الصورة عليهم عند الشهود.
فإن أصحاب النظر والفكر ما برحوا بأفكارهم في الأكوان ، فلهم أن يحاروا ويعجزوا ، وهؤلاء ارتفعوا عن الأكوان ، وما بقي لهم شهود إلا فيه ، فهو مشهودهم ، فكانت حيرتهم باختلاف التجليات أشد من حيرة النظّار في معارضات الدلالات ، وفي الحقيقة ما في الوجود إلا الله.
ولا يعرف الله إلا الله ، فمن وصل إلى الحيرة من المقربين فقد وصل ، والسّلام.
وسمعت شيخنا رضي الله عنه يقول : العلماء بالله على أربعة أصناف :
صنف : ما لهم علم بالله إلا من طريق النظر الفكري ، وهم القائلون بالسلوب.
وصنف : ما لهم علم بالله إلا من طريق التجلي ، وهم القائلون بالثبوت والحدود التابعة للصورة.
وصنف : يحدث لهم علم بالله بين الشهود والنظر ، فلا يبقون مع الصورة في التجلي ، ولا يصلون إلى معرفة هذه الذات الظاهرة بهذه الصورة في أعين الناظرين.
وصنف : ليس واحد من هؤلاء الثلاثة ، ولا يخرج عن جميعهم ، وهو الذي يعلم أن الله تعالى قابل لكل معتقد في العالم ، من حيث إنه عين الوجود ، وهذا القسم ينقسم إلى صنفين :
صنف يقول : عين الحق هو المتجلي في صور الممكنات.
وصنف يقول : أحكام الممكنات ، وهم الصور الظاهرة في عين الوجود الحق ، وكلّ قال ما هو الأمر عليه ، ومن هنا فشت الحيرة في المتحيّرين ، وهي عين الهدي في كل حائر ، فمن وقف مع الحيرة حار ، ومن وقف مع كون الحيرة هدى وصل ، ومن وصل لا يرجع ، لأن من المحال الرجوع بعد كشف الحجاب إلى الحجاب ؛ إذ المعلوم لا يجهله العالم بعد تعلق العلم به.
ومرادنا بالوصول الوصول إلى السعادة الدائمة.
وهو معنى قوله : «فإذا أحببته كنت سمعه وبصره» الحديث.
فعلم أن من أعظم غلطات أهل النظر طلبهم الخروج عن الحيرة بالخلوة والرياضة ، وذلك لا يكون لهم أبدا ، لأن التجرد عن المواد يعقل ولا يشهد ، ولا يسلم لهم عقل من حكم ولا خيال ؛ لأن كل ما سوى الله حقيقته الإمكان ، والشيء لا يزول عن حكم نفسه ، ولا يتعقل إلا ما كان على صورته ، تعالى الله عن ذلك.
وكان شيخنا رضي الله عنه يقول :
من الرجال من زالت عنه الحيرة في الله عزوجل. فقلت له : كيف ذاك؟ فقال : إذا تجلى الله تعالى للقلب في غير عالم المواد زالت الحيرة ، وعلم من الله على قدر ذلك التجلي من غير تعيين ؛ إذ لا يقدر