وهذا الضلال الذي هو الحيرة بالاستعانة بغير الله ؛ هو الضلال البعيد ، والحيرة المذمومة.
وأمّا الضلال الذي هو التلوّن بتجليّات الله تعالى ، والتقلّب في شهوده وشئونه ؛ فذلك حيرة ممدوحة كما عليه الكمّل نسأل الله الثبات في مقام الإيمان ، والحيرة في مقام الإحسان (١) ، اللهم تفضّل علينا به في كل حين لين.
__________________
(١) قال الشيخ الشعراني : الحيرة في الله من كمال المعرفة به ، وهي سارية في العالم النّوريّ والنّاريّ والترابيّ ؛ لأن العالم ما ظهر إلا على ما هو عليه من العلم الإلهيّ ، وما هو في العلم الإلهيّ لا يتبدّل ، (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [الروم : ٣٠].
فما فطر العالم إلا على الحيرة ، وذلك لأن المرتبة الإلهية تنفي بذاتها التقييد عنها ، والقوابل تنفي الإطلاق عنها ، ولا تشهد إلا صورتها من التقييد.
فهذا هو سبب شدة الحيرة في الوجود ، ولا أحد أشدّ حيرة في الله من العلماء به ، ولهذا ورد أنه صلىاللهعليهوسلم كان يقول : «زدني اللهمّ فيك تحيّرا» ، ومع ذلك فأعلى ما يصل إليه العلماء بالله تعالى من طريق نظرهم مبتدأ البهائم ؛ لأنها كغيرها مفطورة على الحيرة في الله عزوجل ، والإنسان يريد أن يخرج بما أعطاه الله تعالى من العقل والرؤية وإمعان النظر عن الحيرة التي فطر عليها ، فلا يصحّ له ذلك.
وعلى هذا الذي قررناه الإشارة بقوله تعالى في حقّ قوم : (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً)[الفرقان : ٤٤].
فإن التشبيه بالأنعام إنما هو في الحيرة لا في المحار فيه ، فليس ذلك نقصا في الأنعام ، والحيرة عمى بلا شكّ (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً)[الإسراء : ٧٢] ، أعني جاهلا بالذات ، لا كما هو في الدنيا.
ولذلك كان العارف المحقق عمرو بن عثمان المكي يقول في صفة العارفين : وكما هم اليوم يكونون غدا ، فعلم أن من طلب معرفة الذات من طريق الفكر والنظر كان مآله إلى الحيرة ، كما أن من طلب الواحد في عينه لم يحصل إلا على الحيرة ، فإنه لا يقدر على الانفكاك من الجمع والكثرة في الطالب والمطلوب ، وكيف يقدر على ذلك ، وهو يحكم على نفسه بأنه طالب ، وعلى نفسه بأنه مطلوب ، ومقام الواحد يتعالى أن يحلّ في شيء ، أو يحلّ فيه شيء ؛ لأن الحقائق لا تتغير عن ذاتها ؛ إذ لو تغيرت لتغير الواحد في نفسه ، وتغيير الحق في نفسه وتغيير الحقائق محال.