__________________
ـ يشاهد ما قدّر له أن يشاهده ممّا كان يتصوّره على خلاف ما كان عليه ، وإليه الإشارة بقول الله تبارك تعالى : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)[الزمر : ٤٧] وحتى تظهر غلبة أحكام الروح ، وعلمه ، وحكم صحبة الحق بالمعية الذاتية ، وسره على حكم المزاج ، وتخيلات صاحبه التخيلات الغير المطابقة لما عليه المتصور.
وإليه الإشارة بقوله تعالى : (هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)[يونس : ٣٠].
ثم اعلم أن كل نشأة ينتقل الإنسان إليها بعد الموت ، فإنها متولدة عن هذه النشأة العنصرية ، وإن في ضمن هذه النشأة ما يدوم ويبقى ، وإن تتنوع ظهوره ، واختلفت كيفياته ، وتراكيبه ؛ وفيه ما يفنى بالموت ، وفيه ما يصحب الروح في البرزخ من الفاسدة والتصورات الرديئة ، والمقاصد القبيحة المستحضرة ، والباقي من لوازم ما ذكرنا من صور الأفعال ، والأقوال الإنسانية بموجب القصد والاستحضار المذكورين.
وأما النشأة الحشرية فإنها باطن هذا الظاهر فيبطن هناك ما ظهر الآن ، ويظهر ما بطن على وجه جامع بين جميع أحكام ما بطن الآن ، وظهر وما نتج من هذا البطون والظهور ، والجمع والتركيب.
ثم عند الصراط يفارق السعداء ما يبقى فيهم من خواص هذا المزاج ، والدار مما هو عنصريّ غير طبيعيّ ، وتبقى معهم أرواح قوى هذه النشأة وجواهرها الأصلية المتركّبة بالتركيب الأبدي الطبيعي الغير العنصري ، وصورة الجمع والتأليف الغيبي الأزلي.
وأهل الشقاء ينفصل عنهم ما قد كان يبقى فيهم من أرواح القوى الإنسانية والصفات الروحانية ، وتتوفّر في نشأتهم صور الأحوال المزاجية الانحرافية والصفات الرديئة والكيفيات المردئة الحاصلة في تصوّراتهم وأذهانهم ، والتي ترتبت عليها أفعالهم في الدار الدنيا وأقوالهم.
وينضم إلى صورهم ما تحلّل من أجزائهم البدنية في هذه النشأة ، فإن كل ما تحلّل من أبدانهم يعاد إليهم ، ويجمع لديهم بصورة ما فارقهم عقلا ، وعلما ، وحالا ، وعملا ، وما يقتضيه ذلك الجمع والتركيب الذي يغلب عليه حكم الصورة على الروحانية.
وأهل الجنة بالعكس ، فإن أكثر قواهم المزاجية ، والصفات الطبيعية ، وما تحلّل من أبدانهم ينقلب بوجه غريب شبيه بالاستحالة صورا روحانية مع بقاء حقيقة الجسم في باطن صورة السعداء ، فالباطن هنا مطلق ، والظاهر مقيّد ، والأمر هناك بالعكس ؛ حكم الإطلاق في ظاهر النشأة الجنانية ، وحكم التقييد في باطنها ؛ وغالب الحكم والأثر فيما ظهر هناك لما بطن هنا وبالعكس.
والنشآت المشار إليها هنا أربعة :
أولها : هذه «النشأة العنصرية» : وهي كالبذرة لباقي النشآت ؛ ولها الإدماج والجمع الأكبر.
وبعدها : «نشأة البرزخ» : وإنها منتشئة من بعض صور أحوال الخلق ، وبعض أعمالهم ، وظنونهم ، وتصوراتهم ، وأخلاقهم ، وصفاتهم ، فيجتمع مما ذكرنا أمور تحصل لها هيئة مخصوصة ؛ كالأمر في المزاج