رحمة للعالمين ، وصلّى عليه بصلاة لم يهتد بسرها العارفون ، وإن بلغوا غاية القصور في المعرفة.
ومنه يعلم أن بعض الأسرار مخصوص بأهله ، لا يتجاوز إلى غيره ، فهو على حالة مجهولة ، ينتقل من الدنيا ، وفي ذلك حكمة خفية ، وغيرة من الله تعالى ؛ لأنه قد تجلّى بكل مستعد بما يناسب حاله ، فلا يجعل طعمة العنقاء للعصفور ، وذلك راجع إلى أحوال الشأن الأزلي الذاتي ، فمن وجد خلوّا فليحمد الله ، ومن وجد خلاف ذلك ، فلا يلومنّ إلا نفسه ، وليصبر وليقف في مقامه المعلوم ، كالملائكة وكجبريل ، فإنه لا يجاوز السدرة قدر أنملة ، فاعرف.
وقال الله تعالى : (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) [البقرة : ٢٥٦].
رأيت في المنام : كأن العلماء اختلفوا في أن الفعل أولى أم الترك ، ثم لقيت في الطريق بعض من يعدّ نفسه من الأولياء ، فقلت له : الفعل أولى أم الترك؟ فقال : الفعل ؛ فأعرضت عنه ؛ لأن هذا الجواب مخالف للواقع.
ألا ترى أن الله تعالى قدّم الكفر بالطاغوت ؛ وهو من باب الترك الذي يقال التخلية بالمهملة ؛ فكان الترك أقدم وأولى من الفعل ، ومن ثم قال بعض الكبار : ما لم يكن كافرا ؛ لم يكن مؤمنا ، وما لم يكن مؤمنا ؛ لم يكن كافرا ، فعليك بالأول ، وإياك والثاني انتهى كلامه.
ومن ثّم أيضا قدّم التسبيح على التحميد في قوله تعالى : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) [طه : ١٣٠] ، فإن التسبيح الذي هو التنزيه من باب التخلية بالمعجمة ، والنفي والتحميد من باب التخلية بالمهملة والإثبات.
ولا شك أن النفي مقدّم على الإثبات في كلمة التوحيد.
وكذا قوله تعالى : (قُمْ فَأَنْذِرْ) [المدثر : ٢] ، فإنه اكتفى بالإنذار في أول الأمر ؛ لكونه أقدم ، ثم قال : (بَشِيراً وَنَذِيراً) [البقرة : ١١٩] ، فقدّم البشارة لشرفها لوجود الإيمان بالفعل ، والتنزيل أيضا ، فمنكم كافر ، ومنكم مؤمن ، فقدّم الكافر ؛ لكثرة أهل الطاغوت ، فهذه الآيات متقاربة في المعنى.