قال الله تعالى : (وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ) [البقرة : ٢٤٥] ، قدّم القبض لأنه أكثر (١) ، كما في قوله تعالى : (فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) [التغابن : ٢] ، وهو قد يكون قبض المال كما في ظواهر العامة ، وقد يكون قبض الحال كما في بواطن الخاصة ، وقبض المال للحماية الإلهية ، كما قال تعالى : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) [الشورى : ٢٧] ، وقبض الحال لتشديد المحنة ، وتميز الممكور من غيره ، وتحقيق الشكر إذا ظهر المزيد ، وتهيئة الاستعداد البسط ، وقس على هذا البسط (٢).
ومنه يعلم أن كمال الإنسان تدريجي ، لا يحصل في الأوقات القليلة ، دلّ عليه أنه تعالى حمّر طينة آدم ، وكمّلها أربعين سنة ، كل يوم من السنة ألف سنة على ما
__________________
(١) القبض : اعلم أن الزمان في مقام القبض لا يصلح إلا للحال ، أو لا تعلق له بالماضي ، والمستقبل ، والنفس إنما تتعلق بالماضي تأسفا ، وبالمستقبل خوفا وحذرا.
قال قدسسره : «القبض في الحقيقة تجلي الحق لكل معتقد في صورة اعتقاد» فصار الحق كأنه محصور ، ومقبوض عليه بالاعتقادات ، وهي العلامة التي بين الله تعالى ، وبين عباده العامة ، ولا بد له في كونه إلها يتصف بهذه الصفة ، والعالم متباين الاستعداد ، ولا بد من الاستناد إليه ، فلا يزال يعبد كل جزء إلهه من حيث استعداده فلا بد أن يتجلى له كل شيء بحسب اقتصار استعداده ، ويقع منه القبول ، فما من شيء إلا وهو يسبح بحمده.
وقيل : «وارد يرد على القلب من الغيب توجيه إشارة إلى عتاب وزجر ، وتأديب ، حين يقع السالك في الهفوات الموجبة للتقاعد والفترة».
وقيل : «أخذ وارد الوقت بغشيان أثر الكون على القلب ، وانطباع صوره فيه».
(٢) البسط : هو عندنا من يسع الأشياء ، ولا يسعه شيء إن واسع المغفرة ما ستر عدمية ماهيات الأشياء ، وهو الوجود العام المسمى بالرحمة العامة المطلقة ، التي وسعت كل شيء ، فمن تحقق بها كان رحمة للعالمين ، أصالة كالحقيقة السيادة ، ووراثة ، كمن يكون قلبه على القلب السيادي فيسع الأشياء ، ولا يسعه شيء يختص بدقيقة منها ، والقلب على الجملة إذا انتهى بسر «وسعني قلب عبدي المؤمن» ، حاز مقام البسط ، وقيل : هو الرجاء في الوقت الحاضر يقابل كون القبض حال الخوف في الوقت الحاضر ، وقيل : «هو وارد في جهة إشارة إلى قبول ورحمة وأنس إما بمنة الحق ، أو بأدب وعمل موجب» ، والعارف مبسوط في قبضه ، مقبوض في بسطه.
وصاحب الحال إذا كان مقبوضا لا ينبسط ، وإذا كان مبسوطا لا ينقبض ، فشأن العارف أن يكون كالمعروف ، يجمع بين الضدين.