قال : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) [الأعراف : ١٧٢](١) لأنه المبدئ الأول ، والجواب الخلقي كان مبدوء بالباء حيث : (قالُوا بَلى) [الأنعام : ٣٠] : لأن الباء هو التعيّن الأول ، والنقطة تحتها ؛ إشارة إليه للتمييز بين مفيض الجود ، والمستفيض ؛ ولذا قال من قال : «أنا النقطة التي تحت الباء» (٢).
__________________
(١) فأخذ الله الصور من ظهر آدم ، وآدم فيهم وأشهدهم على أنفسهم بحضرة الملأ الأعلى والصور التي لهم في كل محل ؛ لقوله تعالى : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [الأعراف : ١٧٢].
فالإنسان عالم بجميع الأمور الخفيّة فيه من حيث روحه المدبّر ، وهو لا يعلم أنه يعلم ، قال تعالى : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)[السجدة : ١٧].
فهو الناسي والساهي ، والأحوال والمقامات والمنازل تذكره ، وهو رجل يدري ولا يدري أنّه يدري.
ومن هذا المقام قال صلىاللهعليهوسلم : «الحكمة ضالة المؤمن».
وقال تعالى : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)[الذاريات : ٥٥].
(٢) هو سيدنا الشبلي قدس الله سره ، كأنه يقول : بي قام كل شيء. فوجوده تعالى بذاته ، وصفاته كلها قائمة بذاته كوجود العالم كله علوه وسفله به ، وقائم بقيوميته ، وتدلّ أيضا على بهائه وبلائه لأنبيائه وأحبائه ، وفيها وجوه متعددة من الاستعانة والإلصاق ، والملابسة والتبعيض ، والظرفية والسببية كلها تعطي البقاء.
ولذا قال الشيخ قدسسره : فيها دعوى من حيث بقاء الرسم ، ولا تعطي الفناء مثل اللام فإذا قلت : «كتبت بالقلم» ، فقد أثبت نفسك كاتبا واستعنت على الكتابة بالقلم ، فالأشياء كلها ظهرت باستعانة الباء ، وهو السبب الذي عنه وجدت ومنه ظهرت وفيه بطنت ، وإليه إشارة الشبلي قدسسره لمّا قيل له : أنت الشبلي فقال : أنا النّقطة التي تحت الباء ، وتعطي الإلصاق أيضا كما في «مررت بالمسجد» ، فكما قال الله تعالى : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ)[البقرة : ١٧] ، فألصق الذهاب بالنور كإلصاق المرور بالمسجد ، والنور هو الباء والباء نور السماوات والأرض وهو الحق الذي قامت به ، وتعطي الظرفية كما في «صليت بالمسجد». وكنا صادرون من فوقها ، وكنا موجودين فيها قبل وجود أعياننا ، وأمّا إعطائها التبعيض ؛ فلأن الذات وإن كانت واحدة لها وجهان الغيب والشهادة ، والظهور والبطون ، والأول والآخر وغير ذلك ، وكل من هذين الوجهين يصح أن يقال : أنّه بعض الذات ، فإن كشف الذات من حيث الشهادة لا من حيث الغيب ، والعلم بها من حيث الغيب لا من حيث الشهادة ، فلا يعاين من الذات إلا الوجه الواحد الذي يدلّ عليه الذي ظهر عليه ، ويغيب عنه الوجه الآخر ، فلا يشهد شاهد إلا بعض الذات بهذا الاعتبار ، وتكون الباء زائدة كما في (كَفى بِاللهِ شَهِيداً)[النساء : ٧٩].
وهو إشارة إلى وجود العبد بما تقتضيه حقيقة العبودية.
ونقل الشيخ رضي الله عنه عن الشيخ أبي مدين قدسسره أنه قال : «ما رأيت شيئا إلا ورأيت الباء عليه مكتوبة» ، فالباء المصاحبة للموجودات من حضرة الحق في مقام كل شيء ، فظهر في كل موجود