محل النزاع
قلنا في الفصل السابق فقرة «الحقيقة الشرعية» : إن ألفاظ العبادات هي أسماء حقيقية للمسميات التي استحدثها الإسلام حسب شريعته .. ونشير الآن الى أن هذه العبادات والمسميات تنقسم من حيث هي وبصرف النظر عن أمر الشارع بها ومراده لها ، تنقسم الى صحيحة كالصلاة يقيمها المصلي على وجهها بلا زيادة أو نقصان ، وإلى باطلة كما لو ترك منها أو أضاف اليها ما يفسد ويبطل .. ولا أحد يشك حتى من نفى الحقيقة الشرعية ـ أن الشارع استعمل أسماء العبادة في كل من القسمين مثل (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) حيث أراد الصحيحة بلا ريب ، ومثل «لا تجزي صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب» حيث أطلق كلمة الصلاة على الناقصة الباطلة.
وبعد الإشارة الى هذا التقسيم نتساءل : قد ترد في كلام الشارع كلمة من ألفاظ العبادات ونعلم بأنه أراد المعنى الجديد الخاص لوجود الصارف عن المعنى اللغوي القديم ، أي مجرد الدعاء ، نعلم ذلك ومع هذا نشك هل أراد بكلمته هذه المعنى الصحيح بالخصوص ، أو الأعم منه ومن الفاسد ، ولا قرينة ترشدنا الى ارادة أيهما على التعيين ، كما لو نهى عن المرور بين يدي المصلي ، ولا ندري هل أراد بنهيه صلاة من أداها صحيحة حتى إذا علمنا بفسادها جاز المرور ، أو أراد مطلق الصلاة حتى مع العلم بالفساد ، إذا كان الأمر كذلك فما ذا نصنع؟ هل نحمل كلمة الشارع على المعنى الصحيح بالخصوص أو الأعم؟ وتأتي الإشارة الى الأقوال.
هذا هو محل النزاع بين الأصوليين في أوضح صورة وأجمعها لأقوالهم وآرائهم في المسألة المعروفة بالصحيح والأعم.
وبهذا يتبين معنا أنه يسوغ لمن نفى الحقيقة الشرعية وقال بأن ألفاظ العبادة لم تنقل عن معانيها القديمة ، يسوغ له أن يكون طرفا في محل النزاع في مسألة الصحيح والأعم ، وأن يختار ما يشاء ، لأنه يعترف ويسلم بأن الشارع قد استعمل أسماء العبادة الجديدة في الصحيح والفاسد مع القرينة تارة ، وتارة بلا قرينة ، وفي مثل هذه الحال (أي إطلاق اللفظ بلا قرينة) يسوغ لمن ينفي الحقيقة الشرعية أن يحمل لفظ الشارع على الصحيح فقط أو على الأعم أو يتوقف إن شاء.