أعرضوا وانقادوا بعض الانقياد ، عاد عليهم بالإرشاد ، وسلك طريقا أسهل وألزم بأن دعاهم إلى ما وافق عليه عيسى والإنجيل وسائر الأنبياء والكتب ، ثمّ لمّا ظهر عدم إجدائه ، وعلم أنّ الآيات والنّذر لا تغن عنهم ، أعرض عن ذلك بقوله : ﴿اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ .
﴿يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ
بَعْدِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (٦٥)﴾
ثمّ أنّه - لمّا كان كلّ من اليهود والنّصارى يدّعون أنّ إبراهيم كان على دينهم ، ويستدلّون بذلك على صحّة ملّتهم ، لتسالم جميع الفرق على علوّ مقام إبراهيم عليهالسلام ، واستقامة طريقته ، وحسن سيرته ، وصحّة عقيدته - ردّ الله عليهم بقوله : ﴿يا أَهْلَ الْكِتابِ﴾ من اليهود والنّصارى ﴿لِمَ تُحَاجُّونَ﴾ وتنازعون ﴿فِي﴾ دين ﴿إِبْراهِيمَ﴾ أنّه يهوديّ أو نصرانيّ ﴿وَ﴾ الحال أنّه ﴿ما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ﴾ اللذين بهما حدث الدّينان ﴿إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ﴾ بقرون كثيرة ، ولم يكونا في زمانه ﴿أَ فَلا تَعْقِلُونَ﴾ أنّ هذه الدّعوى واضحة البطلان ؟ وكيف لا تفهمون أنّ هذا القول من الفساد بمكان.
قيل : إنّ بين إبراهيم وموسى عليهماالسلام ونزول التّوراة ألف سنة ، وبين موسى وعيسى عليهماالسلام ونزول الإنجيل ألفا سنة (١) .
وهم ودفع
إن قيل : إنّ المسلمين أيضا يدّعون أنّ إبراهيم كان مسلما ، وهذه الدّعوى كدعوى أهل الكتابين من المحالات ، حيث إنّه ما أنزل القرآن والإسلام إلّا من بعده ، فكلّ ما يقول المسلمون في توجيه دعواهم ، تقول الطّائفتان أيضا.
قلنا : المراد من الإسلام : هو التّوحيد الخالص ، وتنزيهه تعالى عن التّجسّم والولد والحاجة. وهذ الدّين كان من أوّل الدّنيا ، ويكون إلى يوم القيامة. والمراد باليهوديّة : هو القول بالشّرك ، والتّجسّم ، وإثبات الولد له تعالى. وكذا النّصرانيّة.
وهذه العقائد الفاسدة كانت عندهم منسوبة إلى الكتابين ، أو حدثت في اعتقادهم بعد الكتابين ؛ لأنّ اليهود ذهبوا إلى القول بأنّ العزير ابن الله لتلاوته التّوراة بعد ذهابها من بين النّاس عن ظهر القلب ، والنّصارى قالوا : إنّ المسيح الجائي بالإنجيل كان هو الله أو شريكه أو ولده ؛ لأنّه كان بلا أب ، أو كان عيسى عليهالسلام يعبّر في الإنجيل عن الله بالأب.
وأمّا العقائد الإسلاميّة فلم يكن حدوثها بنزول القرآن ، بل أخبر القرآن بأنّها كانت من لدن آدم
__________________
(١) تفسير أبي السعود ٢ : ٤٨ ، تفسير روح البيان ٢ : ٤٨.