النّصارى : يا محمّد ، ما تريد إلّا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير ، فأنزل الله هذه الآية (١) . وعليها يكون الخطاب لأهل الكتابين.
ثمّ قال تعالى : ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ عن سلوك طريق الإنصاف واتّباع العقل ، واستنكفوا عن قبول ما دعوتهم إليه من التّوحيد وترك الإشراك ﴿فَقُولُوا﴾ أيّها الموحّدون لأهل الكتابين : ﴿اشْهَدُوا﴾ واعترفوا بعدما لزمتكم الحجّة ﴿بِأَنَّا﴾ خاصّة ﴿مُسْلِمُونَ﴾ لله منقادون لما دعانا إليه من التّوحيد ، وعدم الإشراك في العبادة ؛ ببيان العقل ، ولسان الرّسل. وفيه دلالة ظاهرة على أنّ أصل جميع الدّيانات هو التّوحيد ، والإخلاص في العبادة.
في توقيع سيد الرسل إلى قيصر الروم
روي أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله كتب إلى قيصر الرّوم : « من محمّد رسول الله ، إلى هرقل عظيم الرّوم ، سلام على من اتّبع الهدى ، أمّا بعد : فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرّتين ، وإن تولّيت فإنّ عليك إثم الأوليين (٢) ، و﴿يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً﴾ إلى قوله : ﴿فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾(٣) .
روي أنّ هرقل سأل عن حال النبيّ صلىاللهعليهوآله وعرفها ممّن جاء بكتابه ، فقال هرقل : لو كنت عنده لقبّلت قدميه ؛ لمعرفته صدق النبيّ صلىاللهعليهوآله بعلاماته المعلومة له من الكتب القديمة ، لكن خاف من ذهاب الرّئاسة.
ثمّ أنّه كتب جواب كتابه صلىاللهعليهوآله : إنا نشهد أنّك نبيّ ، ولكنّا لا نستطيع أن نترك الدّين القديم الذي اصطفاه الله لعيسى. فعجب النبيّ صلىاللهعليهوآله فقال : « لقد ثبت ملكهم إلى يوم القيامة أبدا » .
وكتب إلى كسرى ملك فارس فمزّق كتابه ، ورجع الرّسول بعدما أراد قتله ، فدعا عليه رسول الله صلىاللهعليهوآله فقال : « خرّق الله ملكهم ، فلا ملك لهم أبدا » ، فكان كذلك (٤) .
فى مبالغة النبي صلىاللهعليهوآله في دعوة النصارى وحسن التدّرج في الحجاج
قال بعض : انظر ما روي في هذه القضيّة من المبالغة في الإرشاد ، وحسن التّدرّج في الحجاج بيّن أوّلا أحوال عيسى ، وما تعاور (٥) عليه من الأطوار المنافية للإلاهيّة ، ثمّ ذكر كيفيّة دعوته للنّاس إلى التّوحيد والإسلام ، ثمّ ذكر ما يحلّ عقدتهم ، ويزيح شبهتهم ، فلمّا ظهر عنادهم ولجاجهم دعاهم إلى المباهلة بنوع من الإعجاز ، ثمّ لمّا
__________________
(١) تفسير الرازي ٨ : ٨٥.
(٢) في تفسير روح البيان : الاريسيّين ، وهم الخدم والخول ، أو هم عبدة النار ، أو الملوك والعشارون. انظر : مكاتيب الرسول : ١٠٥ - ١٠٧.
(٣) تفسير روح البيان ٢ : ٤٦.
(٤) تفسير روح البيان ٢ : ٤٦.
(٥) تعاور : أي تداول عليه.