ثمّ أنّه تعالى بعد أمر نبيّه بمباهلة أهل الكتاب ، وإعراضه عن مجادلتهم - مع كونه صلىاللهعليهوآله حريصا في إيمانهم ، ومصرّا على هدايتهم - أمره بأن يعدل في دعوتهم عن طريق المجادلة والمحاجّة إلى نهج يشهد كلّ عقل سليم أنّه عدل وإنصاف ، ليس فيه شائبة التّعصّب ، بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد للنّصارى :﴿يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا﴾ وهلمّوا بالتّصميم وتوطين النّفس ﴿إِلى كَلِمَةٍ﴾ ذات ﴿سَواءٍ﴾ وقول فيه عدل وإنصاف ﴿بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ﴾ لا يتصوّر فيها لأحد جور وميل على صاحبه ؛ وهي تواطئنا على ﴿أَلَّا نَعْبُدَ﴾ أحدا من الخلق ، وشيئا من الموجودات ﴿إِلَّا اللهَ﴾ المستحقّ بالذّات للالوهيّة والعبادة ﴿وَلا نُشْرِكَ بِهِ﴾ في عبادتنا ﴿شَيْئاً﴾ من مخلوقاته مسيحا كان ، أو صنما ، أو غيرهما ﴿وَلا يَتَّخِذَ﴾ ولا يختار ﴿بَعْضُنا بَعْضاً﴾ آخر من الأحبار والرّهبان ﴿أَرْباباً﴾ ومطاعين في تحليل الأشياء وتحريمها ﴿مِنْ دُونِ اللهِ﴾ وممّا سواه.
في بيان المراد من الأقانيم
فإنّ جميع هذه الأمور الثّلاثة (١) ممّا تسالمت عليها العقول السّليمة والطّباع المستقيمة ، واتّفقت عليها الرّسل والكتب المنزلة ، ومع ذلك خالفت النّصارى كلّها ، إذ كان بعضهم يقولون بالوهيّة عيسى عليهالسلام وحده ويعبدونه ، وبعضهم يشركون بالله غيره ، ويقولون بالأقانيم الثّلاثة : أب ، وابن ، وروح القدس ، حيث قالوا : إنّ اقنوم الكلمة تدرّعت بناسوت المسيح ، واقنوم روح القدس بناسوت مريم ، ولولا [ كون ] هذين الاقنومين ذاتين مستقلّتين ، لما جازت عليها مفارقة ذات الأب والتّدرّع بناسوت عيسى ومريم عليهماالسلام ، فلذا أثبتوا ذوات ثلاثة مستقلّة ، وكذا اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا ، حيث كانوا يطيعونهم في التّحليل والتّحريم ، ويسجدون لهم.
روي أنّه لمّا نزلت ﴿اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ﴾(٢) قال عديّ بن حاتم : ما كنّا نعبدهم يا رسول الله ، فقال صلىاللهعليهوآله : « أ ليس كانوا يحلّون لكم ويحرّمون ، فتأخذون بقولهم ؟ » قال : نعم ، قال : « هو ذلك » (٣) .
قيل : إنّ من مذهبهم أنّ من صار كاملا في الرّياضة والمجاهدة يظهر منه (٤) أثر حلول اللّاهوت ، فيقدر على إحياء الأموات ، وإبراء الأكمه والأبرص. فإنّهم وإن لم يطلقوا عليه اسم الرّبّ ، إلّا أنّهم أثبتوا فيه (٥) معنى الرّبوبيّة (٦) .
وروي أنّ اليهود قالوا للنبيّ صلىاللهعليهوآله : ما تريد إلّا أن نتّخذك ربّا كما اتّخذت النّصارى عيسى ، وقالت
__________________
(١) أي الواردة في الآية.
(٢) التوبة : ٩ / ٣١.
(٣) تفسير أبي السعود ٢ : ٤٧.
(٤) في تفسير الرازي : فيه.
(٥) في تفسير الرازي : في حقه.
(٦) تفسير الرازي ٨ : ٨٦.