ثمّ لمّا ذكر سبحانه أنّهم نقضوا عهد الله بخيانتهم في أموال النّاس ، ذكر أنّهم نقضوا عهده بخيانتهم في التّوراة التي هي أعظم ودائع الله في خلقه ، وتحريفهم إيّاها ، بقوله : ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً﴾ وطائفة ككعب بن أشرف وحيي بن أخطب وأضرابهما ﴿يَلْوُونَ﴾ ويفتلون ﴿أَلْسِنَتَهُمْ﴾ عند التّلفّظ ﴿بِالْكِتابِ﴾ المنزل عليهم ، وحين قراءة آياته الدّالّة على نعوت النبيّ صلىاللهعليهوآله بتغيير الحركات والإعراب ، وكيفيّة تأدية الحروف بحيث يوجب تحريف كلام الله ، وتغيير مدلوله المنزل إلى المحرّف ﴿لِتَحْسَبُوهُ﴾ وتتوهّموه أنّه بالنّحو الذي يقرأونه ﴿مِنَ﴾ جملة ﴿الْكِتابِ﴾ المنزل ، ﴿وَ﴾ الحال أنّه ﴿ما هُوَ مِنَ﴾ جملة ذلك ﴿الْكِتابِ﴾ في نفس الأمر ، وفي اعتقادهم ، ﴿وَ﴾ مع ذلك ﴿يَقُولُونَ﴾ بالصّراحة ، لا بالكناية والتّعريض لمحرّفهم : ﴿هُوَ﴾ الكتاب المنزل ﴿مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ حتّى في اعتقادهم ﴿وَيَقُولُونَ﴾ بهذه النّسبة ﴿عَلَى اللهِ الْكَذِبَ﴾ والافتراء تجرّيا وغرورا ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أنّهم كاذبون مفترون ، وفيه تسجيل عليهم بالتعمّد في الكذب.
عن ابن عبّاس رضى الله عنه : أنّ النّفر الّذين لا يكلّمهم الله يوم القيامة ، ولا ينظر إليهم ، كتبوا كتابا شوّشوا فيه نعت محمّد صلىاللهعليهوآله وخلطوه بالكتاب الذي كان فيه نعت محمّد صلىاللهعليهوآله ، ثمّ قالوا : هذا من عند الله (١) .
﴿ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا
عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ
تَدْرُسُونَ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَ يَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ
بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٧٩) و (٨٠)﴾
ثمّ لمّا كان كذب أهل الكتاب غير مختصّ بالله وتحريفهم بنعوت محمّد صلىاللهعليهوآله ، بل كانوا يكذبون ويفترون على أنبيائهم ويحرّفون كلماتهم ، كافتراء النّصارى على عيسى بأنّه كان يدّعي الالوهيّة ، ويأمر النّاس بعبادة نفسه ، نزّه الله تعالى أنبياءه عن هذه الأباطيل ، ردّا على المفترين ، بقوله : ﴿ما كانَ﴾ صالحا ﴿لِبَشَرٍ﴾ بلغ في كمال القوّة النظريّة والعمليّة إلى ﴿أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ﴾ ويهبه ﴿الْكِتابَ﴾ الناطق بالحقّ ، الآمر بالتّوحيد ، النّاهي عن الشّرك ﴿وَ﴾ أن يؤتيه ﴿الْحُكْمَ﴾ قيل : هو كناية عن الفهم والعلم والسّنن ، ﴿وَ﴾ أن يهبه ﴿النُّبُوَّةَ﴾ الّتي هي منصب إلهي للنفوس الكاملة الطّيّبة الزّكيّة كي يقوموا بهداية الخلق وتعليمهم وتربيتهم ﴿ثُمَّ يَقُولَ﴾ ذلك البشر ، مع كونه في مرتبة البشريّة المنافية للالوهيّة ، وبعد ما شرّفه الله بما ذكر من التّشريفات ، وعرّفه الحقّ ، وأطلعه على شؤونه العالية ﴿لِلنَّاسِ كُونُوا
__________________
(١) تفسير الرازي ٨ : ١٠٧.