ثمّ بيّن سبحانه وجه المماثلة بقوله : ﴿خَلَقَهُ﴾ الله بقدرته الكاملة ﴿مِنْ تُرابٍ﴾ وسوّى جسده من طين لازب ﴿ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ﴾ بشرا وحيّا سويّا ، وأراد أن يوجد إنسانا كاملا ﴿فَيَكُونُ﴾ ويوجد كما أراد من غير ريث ، فإن كنتم عجبتم من خلق عيسى بلا آب ، ولذلك قلتم : إنّه ابن الله ، فلا بدّ أن يكون تعجّبكم من خلق آدم أكثر ، وقولكم بأنّه ابن الله أولى.
فذلك البناء من كيفيّة خلق عيسى هو ﴿الْحَقُ﴾ الثابت ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ لا قول النّصارى ﴿فَلا تَكُنْ﴾ بعد وحي الله إليك ﴿مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ في كيفيّة خلق عيسى ، والشّاكّين فيها ، مع أنّه لا يمكن في حقّك الامتراء والشّكّ.
﴿فَمَنْ حَاجَّكَ﴾ في شأن عيسى وأمّه [ و] جادلك ﴿فِيهِ﴾ لجاجا وجهلا بالأقاويل الباطلة والآراء الزّائغة ﴿مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ بالحقّ وظهور الصّواب من الآيات البيّنات ، وأقمت الحجج عليهم ، فلم يرتدعوا عمّا هم عليه من الغيّ والضّلال ﴿فَقُلْ﴾ لهم ﴿تَعالَوْا﴾ وهلمّوا بالرأي والعزيمة ﴿نَدْعُ﴾ نحن وأنتم ﴿أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ﴾ وتخصيص الأبناء بالذّكر ؛ لأنّهم أعزّ من البنات ﴿وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ﴾ وذكرهنّ لكونهنّ من بعد الأبناء أعزّة الأهل ، ويجعل الإنسان نفسه وقاية لهنّ في المهالك ، ﴿وَ﴾ ندع ﴿وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ﴾ إلى المباهلة ، واحضروا حتّى نحمل نفوسنا ، ومن هو بمنزلة الرّوح منّا وألصق بقلوبنا ، على التّوطين للهلاك ﴿ثُمَّ نَبْتَهِلْ﴾ ونتلاعن ﴿فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ﴾ وعذابه ﴿عَلَى الْكاذِبِينَ﴾ منّا ومنكم.
في ( العلل ) : عن الجواد عليهالسلام قال : « ولو قال : ( تعالوا نبتهل فنجعل لعنت الله عليكم ) لم يجيبوا للمباهلة ، وقد عرف أن نبيّه صلىاللهعليهوآله مؤدّ عنه [ رسالته ] وما هو من الكاذبين ، وكذلك عرف النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه صادق فيما يقول ، ولكن أحبّ أن ينصف من نفسه » (١) .
في شرح قضية المباهلة
روي أنّه صلىاللهعليهوآله لمّا أورد الدّلائل على النّصارى ، ثمّ أنّهم أصرّوا على جهلهم ، فقال صلىاللهعليهوآله : « إنّ الله أمرني إن لم تقبلوا الحجّة أن أباهلكم ، فقالوا : يا أبا القاسم ، بل نرجع فننظر في أمرنا ثمّ نأتيك. فلمّا رجعوا قالوا للعاقب (٢) ، وكان ذا رأيهم : يا عبد المسيح ، ما ترى ؟ فقال : والله ، لقد عرفتم يا معشر النّصارى أنّ محمّدا نبيّ مرسل ، ولقد جاءكم بالكلام [ الحقّ ] في أمر صاحبكم ، والله ما باهل قوم نبيّا قطّ ، فعاش كبيرهم ، ولا نبت صغيرهم ، ولئن فعلتم لكان الاستئصال ، فإن أبيتم [ إلّا ] الإصرار على دينكم ، والإقامة على ما أنتم عليه ، فوادعوا الرّجل وانصرفوا إلى بلادكم.
__________________
(١) علل الشرائع : ١٢٩ / ١ ، عن الإمام الهادي عليهالسلام.
(٢) العاقب : هو من يخلف سيّد القوم في الرتبة ، وهو صاحب الرأي.