بمقتضى القرآن ، وأنّه هو صاحب المنّة في التعريف وأنّه لولا فضله ورحمته ما زكى من أحد في تكليف .
قال : وممّا يدلّك يا ولدي إلى أنّ المعرفة محكوم بحصولها للإنسان بدون ما ذكره أصحاب اللسان أنّهم لو عرفوا من مكلّف ولد على الفطرة حرّ عاقل عقيب بلوغ رشده بأحد أسباب الرشاد ، أنّه قد ارتدّ بردّة يحكم فيها ظاهر الشرع بأحكام الارتداد ، أشاروا بقتله وقالوا :
قد ارتدّ عن فطرة الإسلام ، وتقلّدوا إباحة دمه وماله ، وشهدوا أنّه كفر بعد إسلامه.
فلو لا أنّ العقول قاضية بالاكتفاء والغناء بإيمان الفطرة دون ما ذكروه من طول الفكرة ، كيف كان يحكم على هذا بالردّة ؟ وقد عرفوا أنّه ما يعلم حقيقة من حقائقهم ، ولا سلك طريقا من طرائقهم ، ولا تردّد إلى معلم من علماء المسلمين ، ولا فهم شيئا من ألفاظ المتكلمين ، ولو اعتذر إليهم عن معرفة الدليل بالأعذار التي أوجبوها عليه من النظر الطويل ما قبلوها منه ، ونقضوا ما كانوا أوجبوه وخرجوا عنه .
وكيف كان اللّه جلّ جلاله مبيح دمه وماله وما أحسن به إليه ، وما مضى عليه من الزمان بعد بلوغ رشاده ما يكفيه لتعلّمه من أستاذه ، ومن ملازمته وتردده ، واللّه جلّ جلاله أرحم من الخلق كلّهم بعباده ، وما أباح دمه إلّا وقد اكتفى منه بما فطره عليه وبما يسعه بأقلّ زمان بعد رشاده لاعتقاده .
قال : ومما يدلّك يا ولدي على أنّ القوم يتوافقون ، وإنّما يقولون قولا ما أعلم عذرهم فيما يقولون أنّنا رأينا وسمعنا وعرفنا عنهم إذا بقوا بعد البلوغ والتكليف مدة من أعمارهم على الفطرة الأزليّة والمعرفة الصادرة عن التنبيهات العقليّة والنقليّة ، ثمّ اشتغلوا بعد مدة طويلة بعلم الكلام ، وبما تجدّد بعد الصدر الأول من قواعدهم في الإسلام ، وعلموا منه ما لم يكونوا يعلمونه ، فإنّا نراهم أو نعلم من حالهم أنّهم لا يبطلون شيئا من تكليفهم الأول بالشرعيات ولا ينقضونه ، فلو كانت معرفتهم باللّه جلّ جلاله ما صحّت لهم إلّا بنظرهم الآنف كان مقتضى جهلهم باللّه مع تفريطهم الأول في معرفته مع إظهارهم لشعار الإسلام يلزم منه قضاء ما عملوا من التكليف السالف .
قال : ومما يدلّك يا ولدي [ على ] أنّ معرفة اللّه جلّ جلاله من جوده لتطلبها من باب الزيادة عليه مع وفوده أنّك تجد أكثر العارفين لا يعرفون وقت معرفتهم به جلّ جلاله ، ولا يوم ذلك ، ولا ليله ولا شهره ولا سنته ، ولو كان بمجرد كسبهم ونظرهم قد عرفوه لكان وقت ذلك أو ما قاربه قد فهموه ، لأنّك تجد العقل شاهدا أنّ من عرف سلطانا عظيما بعد أن كان جاهلا