أنّني بين يدي اللّه جلّ جلاله ، فأعتقد ذلك كالكفر إذ عزلته عن ربوبيّته وولايته وولّيتكم وأنتم مماليكه عليه وعلى قلبي ، الذي هو موضع نظره ومسكن معرفته ، وإن جالستكم وحدّثتكم وقلبي تارة معكم وتارة معه اعتقدت ذلك شركا وهلاكا حيث جعلت موقعكم من قلبي موقعه .
قال طاب ثراه : واعلم يا ولدي محمّد أنّني عزمت على الانقطاع عن كلّ شيء يشغلني عن رب العالمين من الخلائق أجمعين ، وحضرت مشهد جدّك أمير المؤمنين عليه السلام ، واستخرت اللّه جلّ جلاله في ذلك استخارة على اليقين ، فاقتضت الاستخارة أنّني لا أترك مخالطتهم في مسكني بالكليّة ، فأنا اخالطهم إذا حضروا باللّه جلّ جلاله في أوقات أرجو فيها سلامتي مع الجلالة الربانيّة ، وإذا رأيت روحي مشغولا بهم أدنى اشتغال تركت محادثتهم في الحال .
واعلم يا ولدي انّ من جملة ما بليت به المخالطة للنّاس معرفة الملوك بي وحبّهم لي ، حتى كاد أن يفسد عليّ سعادة الدنيا والآخرة ، ويحول بيني وبين مالكي صاحب النعم الباطنة والظاهرة ، وما كنت تدركني إلّا وأنا لابس ثياب العار بطلب ولايات دار الاغترار ، وقائدا لك إلى الهلاك وعذاب النار ، وما خلّصني من خطر إقبال ملوك الدنيا وحبّهم ، وسلّمني من السموم القاتلة في قربهم ، إلّا اللّه جلّ جلاله على التحقيق ، فأنا عتيق ذلك المالك الرحيم الشفيق ، وذلك أنّ أول ما نشأت بين جدّي ورّام ووالدي قدّس اللّه أرواحهم وكمّل فلاحهم وكانوا دعاة إلى اللّه جلّ جلاله وطالبين له ، فألهمني اللّه جلّ جلاله سلوك سبيلهم واتباع دليلهم وكنت عزيزا عليهم ، وما أحوجني اللّه جلّ جلاله ـ بإحسانه إليّ وإليهم ـ إلى ما جرت عليه عادة الصبيان من تأديب لي منهم ، أو من أستاذ بسبب من أسباب الهوان ، وتعلّمت الخط والعربيّة وقرأت في علم الشريعة المحمديّة كما قدّمنا ذكره وقرأت كتبا في أصول الدين .
وأراد بعض شيوخي أنّني أدرّس واعلّم الناس وافتيهم وأسلك سبيل الرؤساء المتقدّمين ، فوجدت اللّه جلّ جلاله يقول في القرآن الشريف لجدّك محمد صلّى اللّه عليه وآله صاحب المقام المنيف : « وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ » (١) فرأيت أنّ هذا تهديد ربّ العالمين لأعزّ من عليه من الأوّلين والآخرين ، إن تقوّل عليه بعض الأقاويل ، فكرهت وخفت من الدخول في الفتوى حذرا أن يكون فيها تقوّل عليه ، وطلب رئاسة لا أريد بها التقرّب إليه ، فاعتزلت عن أوائل هذه الحال قبل التلبّس بما فيها من الأهوال ، واشتغلت بما دلّني عليه العلم من العمل الصالح » (٢) .
______
( ١ ) ـ الحاقة ٦٩ : ٤٤ ـ ٤٧ .
( ٢ ) ـ كشف المحجة : ١٠١ ـ ١١٠ .