بقي حليف بيته وأليف كتاب اللّه ، وهو يرى المفضول يمارس الخلافة مع وجود الفاضل ، بل يرى تراثه نهباً ، ومع ذلك كله لم ينبس ببنت شفة إلاّ في موارد خاصة ، حفظاً للوفاق والوئام ، وهو عليهالسلام يشرح لنا تلك الواقعة بقوله : « فواللّه ما كان يُلْقَى في رُوعي ، ولا يَخْطُرُ ببالي ، أنّ العَرَبَ تُزعِجُ هَذَا الأَمرَ مِنْ بَعْدِهِ صلىاللهعليهوآلهوسلم عَنْ أهْل بَيتِهِ ، ولا أنّهُمْ مُنَحُّوهُ عنّي مِنْ بَعْدِهِ ، فما رَاعَني إلاّ انثيالُ الناسِ على فُلان يُبَايِعُونَهُ فَأمْسَكْتُ يدي حتّى رأيتُ راجعة الناسِ قد رَجَعَتْ عن الإسلام يَدْعُونَ إلى مَحْقِ دينِ مُحَمّد فخَشيتُ إن لَمْ أنْصُرِ الإسلامَ واهلَهُ أن أرَى فيه ثَلْماً أو هَدْماً تَكُونُ المُصيبَةُ بِهِ علىَّ أعْظمَ مِنْ فَوْتِ ولايَتِكُم ، الّتي إنّما هِىَ مَتاعُ أيّام قَلائِلَ ... » (١).
وعندما تسنّم سدّة الخلافة ورجع الحق إلى مداره ، قام خطيباً فقال : « والزَمُوا السّوادَ الأعظَمَ ، فإنَّ يدَ اللّهِ مَعَ الجماعَةِ وايّاكُمْ والفُرْقَةَ فإنّ الشّاذَّ مِنَ الناسِ للشيطانِ كَمّا أنّ الشّاذّ مِنَ الغَنَمِ للذِّئْبِ. ألا مَنْ دَعَا إلى هذا الشّعارِ فَاقْتُلُوهُ ولوْ كَانَ تحتَ عِمَامَتي هَذَهَ » (٢).
هذه هي سيرة النبي الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم وسيرة وصيّه وتلميذه ، وهما تعربان عن أنّ حفظ الوحدة من أهمّ الواجبات وأوجب الفرائض ، ولكن يا للأسف لم تراع الأُمّة نصح النبي الأكرم عبر القرون والأجيال ، وهذه مأساة سقيفة بني ساعدة المسرحية وما تمخّض عنها. واقرأها بدقة وإمعان ترَ أنّ الجانبين المهاجرين والأنصار تشبّثوا بدعاوي منتنة تشبه دعوى الجاهلية ، فمندوب الأنصار يجرّ النار إلى قرصه بحجة أنّهم نصروا النبي الأكرم واووه ، كما أنّ المتكلم عن جانب المهاجرين ( ولم يكن في السقيفة منهم آنذاك إلاّ خمسة أشخاص ) يراهم أحقّ بتداول الخلافة بحجة أنّهم عشيرة النبي الأكرم ، وفي الوقت نفسه لم نجد في كلامهما ما يشير إلى ما يخدم صالح الإسلام والمسلمين ، وأنّ المصالح الكبرى تكمن ضمانتها في تنصيب من توفّرت فيه شرائط وسمات وملامح القيادة الربّانية دون سائر أفراد الأُمّة.
____________
١ ـ نهج البلاغة ، الرسالة ٦٢.
٢ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ١٢٧.